إذا استثنينا الفرضية الرومانسية التي تؤمن بـ "الحب من النظرة الأولى"، فإن تاريخ الإنسان بمعظمه عبارة عن تاريخ جماعات بشرية لا تلتقي إلا لتشتبك، فتنتهي المبارزة بغالب ومغلوب، على أمل أن تُنتِجَ هذه المبارزة - الجدليّة واقعاً أفضلَ لأحد أطراف الصراع.
ليس هذا الصدام أو التوتر الدائم سوى نتيجة ملايين السنين من التطور أو ما أجمع عليه العلماء بـ"الكرّ أو الفرّ". وبين الكرّ والفرّ، خريطة جينيّة وخليط هرمونات تدفع الإنسان إلى المواجهة أو الهرب. وفي كلا الحالتين، يبرز الخوف وتتوارى الحقيقة، وتطفو غريزة البقاء وتغور حشرية المعرفة. أبشع تجليات الروح البشرية تكشّفت في لحظات القلق، ما بين الكرّ والفرّ، وفيها أيضاً قدمت البشرية أبرز انتاجاتها على يد قلّة قررت أن تخطو خطوة نحو المجهول.
يجهد المخرج الروسي أندري تاركوفسكي (1932 - 1986) في فيلم "أندري روبليف"، Andrei Rublev، الذي أخرجه عام 1969 في تصوير هذه الصدامات البشرية وكيفية تعامل الشخصيات مع هذه الأحداث، إنطلاقاً من فكرة أن التاريخ هو نتيجة تفاعلات بين الأفراد تشكّل أقدار المجتمعات. فمنهم الطاغية، ومنهم المتمرد، ومنهم الباحث عن حقيقة ما، ومنهم الذي يجد سعادته في تفاصيل الحياة البسيطة. استخدم المخرج مشاهد عنف وقتل لنقل صورة تلك الحقبة المظلمة والعنيفة من تاريخ روسيا. ففي تلك الفترة، عاشت جماعات عديدة قلقاً دائماً نتيجة القمع والاضطهاد، والمجاعة والطاعون، وخطر الغزوات الخارجية والإبادة. وفي ظل هذه الأحداث، يبحث الفيلم عن ردّ مناسب على كل هذا العنف من خلال شخصية أندري روبليف.
يعرض الفيلم مجموعة سرديّات من تاريخ روسيا في العصور الوسطى. وبطل هذه القصة هو الراهب ورسّام الأيقونات الأورثوذوكسية الأشهر في العصور الوسطى أندري روبليف. يؤمن هذا الفنان ذائع الصيت إيماناً عميقاً بخالقه، وعلى رغم ذلك يواجه عقبات تكبّل يديه وتمنعه من خلق أعمال فنية جديدة. ويقول فيه كيريل، زميله في الكنيسة والرسم، إنه "يفتقر إلى الإيمان الحقيقي النابع من القلب".
يقول تاركوفسكي إنه لم يكن يحاول أن يصنع فيلماً تاريخيا، أو أن يروي قصة الراهب أندري روبليف، بل أراد من خلال سيرة روبليف الشخصية فهم تاريخ روسيا العنيف. ففي العصور الوسطى، واجه روبليف صراعاً داخلياً بين فكرة الدين والفن وبين الدولة والتحرر، وبالمثل، واجه المخرج تاركوفسكي عام 1969 نفس المعضلة مع الرقابة السوفييتية التي حظرت فيلمه ومن ثم سمحت بعرض نسخة معدّلة منه.
لقاء "العيد"
في الفصل الرابع من الفيلم، بينما كان الراهب روبليف يجمع الحطب استعداداً للتخييم وقضاء الليلة قرب النهر، سمع صوتاً في عمق الغابة. فتدفعه الحشرية إلى السير باتجاه الصوت، ليجد حشداً من الوثنيين، رجالاً ونساءً وأطفالاً يركضون عراة، حاملين المشاعل، في طقس من الطقوس التي يمارسونها في مناسبة عيد منتصف الصيف الوثني.
يصاب الراهب بالذهول، فيتابع سيره في الخفاء ويتوقف ليشاهد زوجين يمارسان الحب تحت شجرة. يحترق ثوبه وهو يراقبهما وينكشف أمره، فتلقي مجموعة من الوثنيين القبض عليه ويربطونه بعارضة كوخ خشبي. ثم يرفعون ذراعيه بشكل أفقي حين عرفوا أنه راهب مسيحي، ليسخروا من صلب يسوع المسيح. واعتقد الوثنيون أن الراهب سوف يبلّغ الجنود حتماً بمكان الاحتفال المحظور، فقرروا أسره حتى صباح اليوم التالي حفاظاً على سلامتهم.
تقترب امرأة وثنية تُدعى "مارفا" من روبليف المصلوب وهي شبه عارية. فهل نختَبِر الحب من النظرة الأولى؟ يرتبك الراهب من المشهد ثم يُشيح بنظره عن المرأة العارية. وراح يهاجمها لاعتباره أن ما تقوم به جماعتها كفر وزندقة وأن "النار ستأتي من السماء لتحرقهم"، فتردّ عليه بأن شعبها (أي الوثنيين) لا يؤذي أحداً، ومع ذلك يتعرض للاضطهاد بسبب معتقداته وأن الدولة المسيحية تلاحقهم وتذبحهم. يكرر موقفه مضيفاً أن سيرها عاريةً هو خطيئة، فتجيبه:"في هذه الليلة، على الجميع أن يحبّوا. هل الحب خطيئة؟" ثم تُسقِط معطفها وتقبّله ثم تفك وثاقه. فيُسرع الراهب هارباً.
في صباح اليوم التالي، عاد أندري إلى جماعته ثم غادروا المخيّم على متن قوارب خشبية صغيرة. ومع انطلاقهم، تظهر مجموعة من الجنود على ضفة النهر تطارد عدداً من الوثنيين ومن بينهم مارفا. تهرب مارفا وتعبر النهر سباحةً، وتمرّ بجانب قارب روبليف. يُخَبئ الراهب وجهه وينظر بعيداً نكراناً وشعوراً بالعار.
إضافة إلى رمزية الصلب في هذا المشهد، تظهر أمثلة أخرى من سيرة المسيح وخيانته من قبل تلامذته، إذ رفض روبليف مارفا مرّتين ونكرها في صباح اليوم التالي عندما كان الجنود يلاحقونها، فأدار ظهره للحب. ولدعم المغزى، لجأ المخرج أندري تاركوفسكي إلى إدخال مشهد صلب المسيح على أرض روسيّة تغطيها الثلوج، قبل مشهد الوثنيين.
العالِم والمهرّج وصانع الأجراس
يُقدّم تاركوفسكي في الفيلم شخصيات يصادفها روبليف في رحلته. وتختلف طباع تلك الشخصيات عن الطباع السائدة في المجتمع الروسي في العصور الوسطى. وأحدها "ييفيم"، وهو عالم يعمل على تجربة إطلاق منطاد هوائي. يستعجل العالم مساعديه لتجهيز المنطاد قبل وصول مجموعة من المزارعين الغاضبين الذين يرون في تجربته العلمية هرطقة. يُمثل "ييفيم" الشخصية المتمردة الهاربة من ظلام العصور الوسطى، مستعينة بـ"نور العلم". ينجح العالِم بالطيران لبضع دقائق على مرأى المزارعين المشدوهين، إلا أن أحلامه تتحطم بسقوط المنطاد.
وتظهر شخصية مماثلة في مشهد المهرّج الذي يُقدّم عرضاً كوميدياً لمجموعة من العامة الذي يحتمون في حظيرة بانتظار هدوء العاصفة. ويحضر الراهب روبليف إلى الحظيرة ويشاهد العرض الذي يسخر من الدولة والكنيسة. وفور انتهاء العرض، تقتحم مجموعة من الجنود الحظيرة وتلقي القبض على المهرّج الذي لا يُظهِر أي ندم على فعلته.
في ظل بؤس العصور الوسطى وشقاء الحياة في تلك الفترة، لا يُظهِر الفيلم الفرحة على وجوه الأطفال والنساء والرجال إلا في حضرة المهرّج أو العالِم أو في حفلات الوثنيين، أي أولئك المتمردين على السلطة. ولا يُضطهد فيه إلا أولئك الذين يرفضون السلطة ويواجهونها ويشتبكون معها، على طريقتهم. ولكل منهم طقوسه وأدوات تعبيره الخاصة وخوفه الدائم من الاضطهاد. فما الذي يدفعهم إلى الاستمرار في ممارسة المحظور؟
يشكل هذا السؤال المحرك الأساسي للفيلم ولرحلة الراهب روبليف الذي يلتقي عند كل مفترق طرق، وبالمصادفة، شخصية مختلفة ومميزة. ومع أن إنسانية روبليف تدفعه إلى البحث عن الطيبة والحب في كل إنسان، يظلّ يحاول قدر الإمكان الهروب من المواجهة. فهل أثّرت تلك اللقاءات بروبليف الراهب والفنان؟ وهل أجابت الشخصيات، في نهاية المطاف، عن تساؤلاته؟
سؤال: قلق - جواب: فنَ
في المشهد السردي الأخير في الفيلم، يصل روبليف إلى تجمع لعمّال يقودهم شاب صغير السّن ادّعى أن والده، صانع الأجراس المخضرم، أطلعه على سرّ صناعة الأجراس. يجهد الشاب ومساعديه في الطين والوحل لإنجاز المهمة قبل وصول الأمير وبدء احتفال تدشين الجرس. ولو فشلوا في صنع جرس رنّان، سيكون الإعدام مصيرهم جميعاً. وفي اللحظة الحاسمة، ينجح صانع الأجراس الصغير في قرع الجرس ثم ينهار نتيجة القلق الذي عاشه خوفاً من الفشل. يقترب منه روبليف ويحضنه ويقول له: "لماذا تبكي؟" فيجيبه الشاب: "لم يعلّمني أبي سرّ صناعة الأجراس". فيرد روبليف: "ألا ترى أن عملك أسعد الجميع؟ عليك أن تفرح!"
يشير عالم النفس النمساوي أوتو رانك (1884 - 1939) إلى أن القلق الناتج عن الصّراع النفسي هو مصدر إبداع الفنان، وأن صدمة الفنان النفسية تطلق العنان لإبداعاته. ويضيف رانك أن الفن والميثولوجيا والأديان والفلسفة جميعها أبصرت النور بفضل قلق الإنفصال. وهكذا، يذوب القلق في حماسة العالِم المستكشف، وفي فرح المهرّج بضحكة جمهوره، وفي تناغم رقصة الوثني مع الطبيعة والكون. قلق روبليف الباحث عن المعنى زال أيضاً وتحوّل إلى حماسة مستجِدّة للعودة إلى رسم الأيقونات وليملأ العالم سعادةً.
يقول المخرج أندري تاركوفسكي في مقابلة مصوّرة: "سيكون الفن بلا جدوى لو كان العالم مثالياً، ولكان الإنسان نَعِم بالوئام وتخلّى عن السعي إليه." فهل نجد في الفن، كما فعل روبليف، نهاية القلق وبداية السعادة؟
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة