ارتبطت حياته كما كتاباته بحياة البوهيميين والتجريبيين. لم يلتزم بمقولة "عالواطي يا تعاطي" فكتب بإسهاب عن المخدرات والجنس (Naked Lunch, Junkie, Queer...). استكشف، مستعيناً بطبيبه المُتخيّل "كورت اونرو فون شتاينبلاتز" مرضاً داخلياً عند الإنسان، فرَوّج لنظرية أن "الكلمة هي فيروس". نحاور في الحلقة الأخيرة من حوارات "جغل بيزنطي" لعام 2020 الكاتب والفنان إبن جيل البيت (Beat generation) ويليام س. بوروز (William S. Burroughs) ليُحدّثنا عن الحداثة الفيروسية وموت الإنسان بعد موت خالقه (أو العكس).
يتعامل بوروز مع الكتابة على أنها أساسًا قوّة غريبة (alien) عن الإنسان. فيعتبر أنها "فيروس جعل الكلمة المنطوقة ممكنة"، ويصفها بأنها الجاني المسؤول عن نمو أنظمة الحكم الشمولية في الشرق كما في الغرب. طيّب، إذا لم تكن اللغة جزءًا من الإنسان، بل عنصراً مَرَضياً غريباً حسب تعبيره، فما هو تعريف بوروز للإنسان؟ وإذا كان الجسد مجرد قطعة فنية معاصرة عفا عليها الزمن، واللغة هي الفيروس الذي يتحكّم في تلك القطعة، فما الذي يدفع بوروز إلى أن يخلّص الإنسان من الموت؟
سيد بوروز، فلنستهلّ حوارنا بقصّة الدكتور الذي نسجتَها في خيالك عام 1970، أقصد هنا دوكتور كورت اونرو فون شتاينبلاتز (عاشت الأسامي)، فادّعيت أنه أثبَتَ علمياً أن الكلمة هي فيروس. ثم استخدمتَ هذه النظرية غير المدعومة بالبراهين في العديد من كتاباتك. سؤالي هو: ما هذا الهراء أستاذ بوروز؟ هل أنت سعيد بنشرك الأخبار المزيفة؟
أولاً، الكلمة هي بالفعل فيروس. أحيانًا يكون الفيروس "طفيليًا" (parasite) وأحيانًا يكون "تكافليًا" (Symbiotic). لم يعترف الإنسان بعد بأن الكلمة هي فيروس لأنه وصل معها إلى نوع من التعايش والاستقرار بين الضيف والمضيف، أي الإنسان. على سبيل المثال، "النصف الآخر" الذي غالبًا ما نتحدث عنه في كتاباتنا هو "الكلمة"، هو كائن حي. "النصف الآخر" هو كائن حي منفصل عنّا، ومتصل غالبًا بجهازنا العصبي. الكلمة الآن هي الفيروس، أكرّر. ربما كان فيروس الإنفلونزا خلية رئوية حميدة. هو الآن كائن طفيليّ يغزو ويدمر الجهاز العصبي. لقد فقد الإنسان المعاصر خِيار الصّمت! حاوِل أن تتوقف عن الكلام. حاول أن تحقّق عشر ثوانٍ فقط من الصمت الداخلي. ستواجه كائنًا مقاومًا يجبرك على التحدّث. هذا الكائن الحيّ هو الكلمة. هذه الكلمة - الفيروس فرضت نفسها على وجودك، وأزعم أن "الشر" هو هذا الفيروس الطفيليّ الذي يحتلّ منطقة معيّنة من الدماغ.
ألاحِظ في بعض الأحيان كيف أن حياتنا أصبحت على تماس دائم مع الفيروسات حتى قبل الكورونا، وربما كانت هاجساً لدى كثيرين من دون وعي. لاحظ إعلانات الـ "يقضي على 99% من الجراثيم"، أوليس الراجح أن تكون الـ1% العصيّة على مواد التنظيف هي الكلمة؟
حياة البشر كانت على تماس مع الفيروس منذ القِدَم، لكني في كل الأحوال، سعيد فعلاً لأن الناس أدركوا أخيراً، ولو متأخرين، العلاقة بين الكلمة والفيروسات، فهذه الحداثة الفيروسية هي بالفعل حفلة أمراض بنت كلب. ألا تلاحظ كيف تعمل عدوى الفيروس (contagion) على إعادة تصميم أدوات التحكم بحركة الهجرة والعمالة، وبطبيعة الأمر بكيفية إعادة إنتاج هذه النُظُم الاستغلالية المتنقّلة؟ لاحظ معي: تولّد الحركة والعادات أنماطًا من التعرض للإصابة بالمرض والحماية من العدوى، فتصبح هذه الأنماط موردًا لإدارة الحياة البيولوجية والاجتماعية. تُحوّل البيانات (مثلاً هاتفك الذكي) - أي الكلمة - العدوى إلى نماذج ماتيماتيكية تجعل الفيروس قابلاً للإدارة. هكذا تحوّلت الدول والشركات إلى شرطي يقرر ما هي الكائنات الحية التي تنتشر أو لا تنتشر وضمن أية مساحة جغرافية. مثال على ذلك العَلاقة المرَضية بين "حُصن" أوروبا و"الفيروس" الجنوبي، حيث تتدفق الكائنات الحيّة "العاطلة عن العمل" كما يسمّونها، فتحاول أن تدخل إلى الجسد الأوروبي الهالك الذي يأبى أن يكون مضيفًا للفيروس لولا "تعاطف" السيدة ميركل. في هذه الحالة، العاطلون الآتون من الجَنُوب هم الفيروس الثقافي الذي يحاول أن يدخل الحصن الأوروبي. هذا الفيروس، الكلمة، ينتشر بشكل جنوني وهناك جهات تتحكم في حركته يا رجل!
ذكّرني كلامك بالتجربة المزعجة التي أُطلق عليها إسم "عدوى العاطفة" (Emotion contagion experiment) والتي أجرتها شركة فيسبوك عام 2014. في هذه التجربة، تلاعَبَ السيد زوكربيرغ وعلماؤه المجانين بشريط أخبار الملايين من مستخدمي فيسبوك لفترة زمنية قصيرة جدًا. قرروا عرض المزيد من البوستات (status update) التي تعبّر عن مزاج عاطفي سلبي بدلاً من التحديثات الإيجابية. وكانت النتيجة أن جميع من تعرّضوا لهذه الأخبار أصابهم الحزن ثم عادوا وعبّروا عن حزنهم في بوستات جديدة أعادت إنتاج الشعور بالحزن لدى المزيد من مستخدمي فايسبوك. خلقت التجربة شكلاً من أشكال العدوى العاطفية على نطاق واسع لم يسبق لها مثيل في التاريخ البشري. وهكذا وجد الباحثون أن الحالات العاطفية يمكن أن تنتقل إلى الآخرين، كالفيروس، عن طريق العدوى العاطفية، ما يعني أن الناس سيعيشون التجارب والمشاعر نفسها من دون أي إدراك أو وعي بحدوثها. أعتقد أن هذا الحدث أعلن بداية نظام جديد للسيطرة على عدوى الفيروس. فبدل القضاء على الفيروس، من المفيد أكثر أن تسيطر عليه، أن تروّضه، وأن تدجّنه لمصلحتك الخاصة، أن تجعله تكافليًا وليس طفيليًا.
أحسنت. الملفت في تلك التجربة أنها تقدّم دليلًا على أن العدوى يمكن أن تتمّ دون أي تواصل أو تفاعل مباشر بين النّاس وبغياب تام للإشارات غير اللفظية. يمكن للعدوى العاطفية أن تنتقل من شخص في تايوان إلى شخص آخر في المكسيك. بمعنى آخر، العدوى تحتاج إلى شيء واحد فقط: كلمة. فيروس! وأنت تقول لي أن الدوكتور كورت اونرو فون شتاينبلاتز هو شخصية خيالية! أنظر إلى مجانين زوكربيرغ!
قال المفكّر المرحوم ديفيد غريبر في أحد كتبه أن السيطرة المجتمعية والعدوى الفيروسية انتشرتا تقريبًا في نفس الحقبة التاريخية. والقاسم المشترك بينهما هو "التدجين". بدأ كل شيء منذ حوالي 10 آلاف سنة، مع تدجين ليس الحيوانات وحسب، بل أيضًا الإنسان، داخل جدران المدينة. ومع التدجين، جاء الفيروس والعدوى والأوبئة.
وما هو أعظم ما انتجته هذه الحضارة البشرية؟ الثقافة! الكلمة! مثل أي فيروس، فإن العدوى هي القفز من كائن حي إلى آخر عبر نقطة دخول ضعيفة وهشّة. الأمر نفسه ينطبق على الثقافة والمجتمع والبشرية عمومًا. يجد الفيروس المضيفين الضعفاء ثم ينتشر بشكل جنوني.
مهلًا ويليام! أنظر إلى نفسك، أنت تتحدّث وكأنك مرتاب ومذعور…
الإنسان المذعور هو الإنسان الذي لا يعلم ماذا يجري من حوله، أي الإنسان المعاصر. أما أنا، فأعرف تماماً ماذا يحاولون أن يفعلوا بنا.
طيب، يسخّر العالم كل موارده لزيادة الإنتاجية والفعالية و getting things done كما يقول أصدقاؤنا في أميركا. البعض يطلق عليها إسم "السوق الحرة" والـfree flow of information ، والبعض الآخر يسميها ليبرالية، ديمقراطية، إلخ ... ماذا تسمي هذا النظام الذي نعيش فيه اليوم؟
إنه "السرطان" يا رجل. الديمقراطية الليبرالية، سمّها ما شِئت، هي ورم سرطاني، والوظائف هي العنصر الباثولوجي. تنمو جذور الوظيفة المكتبية في أي مكان وفي أي مدينة، وتتحول إلى ورم خبيث مثل مكتب مكافحة المخدرات، وتنمو وتتكاثر وتخلق المزيد من النسخ المتطابقة، حتى تخنق المضيف (أي الإنسان والمجتمع) أو تتحكم فيه. لا يمكن للمكاتب والوظائف أن تعيش وتنتشر من دون مضيف، فهي كائنات طفيلية. وفي المقابل، تستطيع التعاونية أن تعيش من دون الدولة. هذا هو الطريق الذي يجب اتّباعه. بناء وحدات مستقلة لتلبية احتياجات الأشخاص الذين يشاركون في عمل الوحدة. أما المكتب - الفيروس، فينطلق من مبادئ معاكسة، فيخلق احتياجات غير حقيقية ليبرر وجوده الطفيلي. البيروقراطية خطيئة كالسرطان، هي انحراف مَرَضيّ عن الخط التطوري للخليّة البشريّة ذات الإمكانات اللامحدودة والتمايز والعمل العفوي المستقل.
طيب، فلننتقل الآن إلى ظاهرة تشبه الفيروس بطريقة انتشارها. في كتابك Naked Lunch - 1959، قلت أن "وجه" الشّر هو وجه الحاجة الكليّة (Total) وأن الإنسان المدمن هو مثال هذه الحاجة. وبعد تخطّي مستوى معيّن، فإن "الحاجة" لا تعرف أي حدّ فيفقد الإنسان السيطرة عليها. كيف تفسّر هذا النوع من الانتشار التوسّعي الذي يجتاح "واقع" متعاطي المخدرات؟
أعتقد أن السؤال الذي تحاول طرحه عليّ هو التالي: لماذا جرّبت المخدرات؟ لماذا واصلت استخدامها لفترة كانت كافية لتحويلك إلى مدمن؟ والحقيقة هي أني أصبحت مدمنًا لأنه ليس لدي أية دوافع قوية للسير في الاتجاه المعاكس. الحقيقة هي أن المخدرات تفوز دائماً. لقد جرّبتها من باب الفضول. ولكن، كما تقولون في لبنان: "إذا ذِقت، علِقت". عندما تتخلى عن المخدرات، فإنك تتخلى عن أسلوب حياة. ولهذا السبب أُشبّه المخدّر بالفيروس. فهو يغزو النظام الحيوي كُلّه - ليس الجسد فحسب، بل معتقداتك أيضاً.
يتكون قاموسك من مصطلحات مثل الغزو (Invade)، والسيطرة (Control) ، والكليّة (Total) ، والحدّ (Limit) ، وحدود السيطرة. (Limits of control)، ما الذي دفعك في هذا الاتجاه الصدامي؟
هذا عالم الحرب. الحرب حاضرة في كل زمان. هذه هي طبيعة عالمنا. قد تكون هناك عوالم أخرى مبنيّة على قوانين أخرى، ولكن يبدو أن عالمنا قائم على الحرب والألعاب. جميع الألعاب عدائيّة. لديك المنتصرون والمهزومون. نراهم في كل مكان من حولنا: يمكن أن يصبح الخاسرون فائزين في كثير من الأحيان، ويمكن أن يصبح الفائزون خاسرين فجأة. هذا هو عالم الحرب.
صحيح، نحن نعيش في زمن شديد الاضطراب، يمكن وصفه بالحرب اللّامرئيّة، الخسائر كبيرة، ومع ذلك، لا أدلّة على الجريمة. الأمور تزداد جنونًا كل يوم. ما الذي يحدث برأيك يا ويليام؟
معظم مشاكل العالم سببها 10 إلى 20 بالمئة من الأشخاص الذين لا يستطيعون إلا أن يتطفّلوا ويتدخلوا في شؤون الآخرين لأنهم، كالفيروس، يعتمد وجودهم ومعنى وجودهم على الآخر. الصورة المكسورة للإنسان تتحرك لحظة بلحظة ومن خلية إلى أخرى في مشاهد الفقر والكراهية والحرب وإجرام الشرطة والبيروقراطية والجنون… كلّها أعراض الفيروس البشري. حان الوقت لعزل الفيروس البشري ومعالجته.
إذا كانت العدوى لا تتخلى عن مشهد الحاضر أبدًا، إذا استمرت كقوة تأسيسية في إنتاج الحياة الاجتماعية، فكيف يمكننا إعادة تصميم أو هندسة الفيروس كي يصبح صديقًا نتأقلم مع كرهنا له؟ كيف ومتى يحين وقت العدوى المعاكسة؟
الصمت هو الترياق الوحيد لفيروس الكلمة. ولكن ما من أحد مستعدّ لشرب الترياق. أمّا الحيلة الأسهل التي استخدمها شخصيًا في كتاباتي فيمكن وصفها بأنها عملية إعادة تمَوضُع تسمح في استخدام الفيروس ضدّ نفسه. "الطيّة" (Fold-in) هي السلاح النَصيّ الأساسيّ في حرب العصابات لمواجهة هذا الفيروس. ثم اكتشفت "القَطع" (Cut-up) في 1959 في باريس. كنت اختار مقاطع من كتاباتي وكتّاب آخرين، ثم أعيد لصقها بترتيب مختلف؛ ومن شأن ذلك أن يوقف تكاثر الفيروس ويعطّل قوته. تتضمن تقنية "الطيّة" طيّ صفحة من النص وقراءتها مع النصف الآخر من الصفحة التالية. وصدّقني، أحيانًا أجد أن النسخة المطويّة الجديدة أوضح وأفضل من المادة الأصلية. وأحيانًا، كنت لا أريد سوى جرعة من المخدّر.
… لا أعرف ماذا أقول، أعذرني، "تعطّلت لغة الكلام". أمَا وقد وصلنا، لا بل تخطّينا حدود الـ 1500 كلمة في حوارنا الشيّق هذا، الكلمة الأخيرة لك استاذ بوروز
لا شيء، لست مدمنًا على الحياة، لست سوى شبح يَجول في شارع مكتظ في وضح النهار، أريد أن أموت فقط، لا أريد للفيروس أن يعيش. أستأذنك واستأذن قراء "رحلة".
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة