في كتابه "مجتمع المستهلِك" (1971) يتحدّث جان بودريار عن الإستهلاك كنوع من العلاقات البشرية، ليس فقط مع الأشياء، ولكن أيضًا مع المجتمع والعالم ككلّ، فيقول أن الإستهلاك هو نمط من النشاط الممنهج وفِعل استجابة دائم يشكّل نظامنا الثقافي حول العالم. في هذا النظام، تغذّي الشركات التكنوقراطية العملاقة رغبات لا يمكن كبحها، لتشكّل هرميّة اجتماعية جديدة تحلّ مكان الفروقات الطبقية القديمة. أهلا بالسيد بودريار. أول شي بونسوار… ثانياً، قلّ لي... ماذا نستهلك؟
نحن لا نستهلك سلعاً، بل نستهلك رموزاً، رسائل، صور. وبالتالي، الشرط الأول للوجود في هذا العالم هو قدرة المستهلك على "قراءة" نظام الإستهلاك ورموزه لكي يتمكن من معرفة ما يجب استهلاكه. علاوة على ذلك، لأننا جميعًا نعرف "الكود"، فنحن نعرف أيضاً معنى استهلاك كلّ سلعة. السلعة لا تُعرَّف بأوجه استخدامها ومنافعها، بل بما تعنيه، وهذه الرموز هي "الكود" الموحّد الذي يجمعنا.
ولماذا يشعر الناس دائمًا أنهم لا يملكون ما يكفي لإشباع رغباتهم؟
إن الإحتياجات البشرية محدودة من الناحية البيولوجية. إلا أن الإحتياجات في المجتمعات المعاصرة غالباً ما تكون غير محدودة. ينفق المجتمع، من خلال نظام الرفاهية، وأحياناً نظام الدعم، جزءًا من فائضه من أجل إبقاء الجمهور في طابور، ليكونوا قادرين على استهلاك ما يعتقدون أنه ما يرغبون فيه فعلاً. تبدو تقديمات الدولة كالدّعم والمساعدات المالية كأنها في نفس الوقت أمر مفروض وواجب إيديولوجي للدولة، ونوع من أنواع الرقابة الإجتماعية. عندما تقول لك باريس هيلتون "Stop being poor" ، فإنها تحكم عليك بعقوبة الإنضمام إلى الجماهير خلال تخفيضات الـ Black Friday. الناس محكوم عليهم بالفقر المدقع ولكن مع شاشة تلفاز حجم 50 بوصة وحذاء آخر موضة. لا يمكن مواجهة هذا الواقع إلا بثورة، ثورة غير محتملة، إن لم تكن مستحيلة. لكن هل لاحظت ما حدث مؤخرًا في الحرب الأوكرانية؟..لاحظت ما يمكن وصفه بشذوذ عن القاعدة. أوقف النظام العالمي عملية الإستهلاك العابرة للحدود ولكن دون كبح الرغبات الدفينة. من أولى القرارات التي أُقرّت ضمن سلّة العقوبات الأخيرة على روسيا كان إيقاف خدمات الدفع الإلكترونية للمستهلكين الروس، وحجب نتفلكس، وإقفال مطاعم الوجبات السريعة مثل ماكدونالدز. كما مُنِع المستهلِكون الغربيون أيضًا، ربما بطريقة رمزية، من استهلاك ما قدّمه الأدب والثقافة الروسيين للبشرية.
سيد بودريار، تعتَبِر أن هذا "النظام" يعيد إنتاج نفسه من خلال إنتاج الثروة والفقر، الاستياء والرضى، الاضطرابات والتقدّم. كيف؟ ولماذا؟
هذا يحصل بشكل دائم، وأبطال هذا المجال هم المعلنين والصحافة. وبالتالي ، فإن الإعلانات والأخبار تشكل في آن واحد مادة بصرية ومكتوبة وصوتية وأسطورية. هذه الأشكال المتعددة تتبادل الأدوار في مختلف وسائل الإعلام ووسائطها بطريقة تبدو طبيعية بالنسبة لنا... يثيرون نفس الفضول ونفس الشراهة. تعتقد أنك تشاهد نشرة الأخبار، ثم تنتقل إلى الفواصل الإعلانية، ثم تصبح الإعلانات فقرات مدمجة في نشرة الأخبار، ثم تتوقف عن التمييز بين الأخبار والإعلانات. بمجرد تصديقك للإعلان، يصبح خبرًا، يصبح حقيقة. تتحقق النبوءة بقوة قادر. الصحفيون والمُعلِنون يعملون في مجال الأسطرة: فهم يقدمون الشيء أو الحدث كمشهد درامي، كنوع من الخيال. وهنا نقع في فخ نعتقد أننا من خلاله نكشف حقيقة الأمور. الحقيقة هي أن لا صح ولا خطأ في الإعلانات والأخبار وليس مهماً إن كنت تصدقها أم لا. فهي لا تهدف إلى تعزيز إدراكك أو معرفتك أو فهمك، بل تعمل على زرع الأمل، الأمل الزائف أو الحقيقي؟ لا يهم. المهم أنهم يحوّلون موضوع الإستهلاك إلى حدثٍ زائف، سيصبح حقيقياً، في اللحظة التي يرمي كل واحد منّا هاتفه جانباً ويلقي نظرة داخل البرّاد. وهكذا، لا يمجّد الإعلان كائنًا واحدًا فقط، بل يمجد جميع الكائنات. فالإعلان لا يستهدف مستهلكًا واحدًا، بل جميع المستهلِكين، يوحّد الجموع تحت شعارٍ واحد أو لحنٍ تافه في إعلان تلفزيوني.
من قتل نفساً فكأنما قتل الناس جميعاً. طيّب. تتحدث عن المجتمعات البشرية القديمة التي عانت من الفقر المدقع، بمعنى أن لديها القليل من الممتلكات الشخصية. لم يمارس أولئك أعمالاً أو وظائف بالمعنى الحديث للمصطلح، ولم يجروا أية حسابات اقتصادية ولم يكدّسوا البضائع. شاركوا كل ما لديهم مع باقي أعضاء المجموعة وكانوا على ثقة بأن لديهم ما يكفي من الطعام لاستهلاكه على الفور. وهكذا شعروا بالطمأنينة لأنهم كانوا واثقين من وفرة الموارد الطبيعية في هذا العالم. كيف نفهم مجتمعاتنا الحديثة إذا قارناها بتلك المجتمعات الفقيرة المطمَئنّة؟
يتميز المجتمع الحديث بالقلق واليأس نتيجة عدّة عوامل تُشعره بالقصور. في المجتمع البدائي، كان الإستهلاك جماعيًا. أمّا في المجتمع المعاصر، فيُعتبر امتلاك السلع الإستهلاكية أمراً يمارس على المستوى الفردي. وبالطبع، يؤدي ذلك إلى التمايز والتفرقة بدلاً عن التكافل الاجتماعي. وبالتالي، فإن الإستهلاك الحديث يتعارض مع الطبيعة الجماعية الأصلية لفعل الاستهلاك. السبب؟ الأيديولوجية المرتبطة بهذا النظام العالمي تدفع الناس إلى الإعتقاد خطأً أنهم، بواسطة ممتلكاتهم، أغنياء وراضون وسعداء ومتحرّرون.
في عصرنا هذا، يعتني الناس بأجسادهم وينفقون المال عليها أكثر من أي شيء آخر. حتّى أنهم يقومون باستثمارات نفسية كبيرة في أجسادهم وفي طريقة عرضِها على الإنستغرام. إنها فيتيشيّة الجسد. ما الذي جعلنا "نتقدم" كبشر في هذا الاتجاه؟
لقد أصبحنا مستهلكين لأجسادنا، وبالتالي فإننا نستهلك أيضاً مجموعة متنوعة من السلع والخدمات من أجل تعزيز أجسادنا. هذا يعني أن فيتيشيّة الجنس قد فتحت الباب أمام مزيدٍ من الرغبات. هنا أود الإشارة إلى أن الانفجار الجنسي أو موجة الاهتمام بالجنس منذ منتصف القرن العشرين مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالمجتمع الاستهلاكي. هناك سببان رئيسيان على الأقل لمركزية النشاط الجنسي في المجتمع الإستهلاكي. من ناحية، وهي الأكثر وضوحًا، "الجنس يبيع" (Sex sells) كما يقولون في أميركا، فيُستخدم الجنس لبيع أشياء وخدمات لا تعد ولا تحصى. من ناحية أخرى، يتم التعبير عن الجنسانية من خلال فعل الإستهلاك حتى لا تتحول جنسانيتنا إلى قوّة تحرّر، قوة تعطّل أو ربما تطيح بالنظام الاجتماعي القائم.
إن ظاهرة "إعادة اكتشاف الجسد"، التي بدأت مع حقبة "الثقافة المضادة" في ستينيات القرن الماضي، شقّت طريقها مباشرةً إلى الإعلانات والأزياء والثقافة الجماهيرية، فانبثق عنها تيارات وcults متخصصة بالصحة والتغذية والعلاج، تعبّر عن هوس بالشباب، والأناقة، والرجولة أو الأنوثة. وهكذا شاهدنا كيف أن الجماهير قرّرت تبنّي العلاجات والوجبات الغذائية الصحيّة والريجيم، مضحّية برغباتها وكابحة لنزواتها، كي تقول: "جسدي هو ما أريد أن يكون، ما أريد". صراحةً هناك نوع من النرجسية الجماعية الهائلة التي تحث المجتمع على دمج نفسه في الصورة التي يقدمها عن نفسه، ليقتنع بنفسه، كما تفعل الإعلانات، أن جسده هو كسيارة الموستانغ الحمراء، برّاقة وجبّارة.
أي موستانغ يا رجل؟ أنا جسدي معطوب، ولا أجد قطع غيار تغنيني عن وجع الظهر الذي يلاحقني، جسدي ليس موستانغ ولا معبد، بل هو مخزن صدئ لا أكثر. على كل حال، كشفتَ عدداً من "الأمراض" التي يعاني منها المجتمع الإستهلاكي مثل العنف المتفشّي، ثم تيّارات نبذ العنف، كالهيبيين، بالإضافة إلى مرض "الإرهاق"، فتقول أن الإرهاق هو شكل من أشكال الإحتجاج الخفي الذي يمارسه المستهلكون في مجتمعاتنا. سيد بودريار، لماذا نحن مُتعبون؟
مشكلة التّعب متفشّية في جميع أنحاء العالم. لقد أصاب الإرهاق أبطال الإستهلاك. التعب، باعتباره متلازمة جماعية لمجتمع ما بعد الصناعة، يمثّل واحدة من الإنحرافات العميقة وخللاً في منظومة الإزدهار التي يروَّج لها دائماً. هذا الإرهاق، وهو بالفعل مرض هذا العصر، إن كان يدلّ على شيء فهو التالي: هذا المجتمع الذي يدّعي أنه يسير بخطى ثابتة نحو إلغاء الجهد، والحدّ من التوتر، وتأمين سبل حياة أفضل وأسهل بفضل الآلة، هو في الواقع مجتمع ينحدر نحو مزيد من الإجهاد والتوتّر واستهلاك المخدرات والمسكّنات. أي إذا حسَبنا الإنفاق الإجمالي على فكرة السعادة فسنجد أن الميزانية العامة في حالة عجز متزايد. وفي كلّ مرة تتحقق فيه الشروط العلمية والتقنية لتحقيق "السعادة" للجميع، تتراجع حظوظ تحقيقها على أرض الواقع.
على أرض الواقع…يا لها من عبارة…. عفواً، تشتت أفكار لا أكثر.. حسناً، أنت ترى أنّ النفايات في المجتمع الإستهلاكي ليست خللاً، بل هي في صميم "السيستم"، فتقول أن الاستهلاك المفرط وغير المبرّر وما ينتج عنه من نفايات يسمح للناس وللمجتمع ككل بأن يشعر أنه فعلاً على قيد الحياة. "أكلتنا الزبالة" يا جان.
صحيح، لقد تمّ الإستغناء عن أبطال الإنتاج، أي العمّال، وتم استبدالهم بأصنام الإستهلاك ومبذّري الثروات مشاهير الإنستغرام. أنظر إليهم كيف يرمون الطعام أمام الكاميرا من أجل المتعة، من أجل بضعة "لايكات"، أصبحوا الآن جزءًا من حياتنا اليومية وواقع استهلاكنا للصور .. هذه الكائنات تعيش بيننا، بل أصبحت هي الأكثرية. هم يلعبون هذا الدور في المجتمع: وظيفة الإنفاق والإستهلاك اللامحدود من أجل استمرار "السيستم".
أنظر إلى كل هذا الهراء الذي نصنعه كمجتمعات "متقدمة". إنها محاكاة Simulation، كيتش، أشياء تافهة، أدوات تحاكي وظيفة دون أن يكون لها أي استخدام عملي. هذه أشياء زائفة على عكس الأشياء "الحقيقية". هذه الأشياء التافهة تحتوي على كثير من "الرموز"، وتفتقر إلى أي معنى حقيقي. ومع ذلك، يتم استهلاكها، وهذا دليل آخر على أننا نستهلك الرموز، الكود. نرى نفس الظاهرة في مجال صناعة الفن. ترتبط شعبية الفن الهابط ارتباطًا وثيقًا بغزارة الإنتاج، أي عدد النسخ ومدى انتشارها. وبدلاً من الجمال والأصالة، يقدم الفن الهابط محاكاةً للجمال، أشياء تتكاثر وتقلد بعضها البعض وتعاود الظهور في كل مناسبة. لذلك أشعر دائماً أن المجتمع بأسره هو مجتمع عديم الفائدة، مصطنع ومزيّف إلى أبعد حد.
بُعدٌ "مميز" آخر لمجتمعنا يتضمن الإنخراط في إعادة التدريب - إعادة التدوير. الآن، يتوجّب على كل شخص لا يرغب في أن يفقد وظيفته، أو أن يلقى به في سلة المهملات، أن يقوم بـ "تحديث" موقعه في سوق العمل، من خلال استهلاك المزيد من الدورات التدريبية والمعارف التي لن تفيده إلا لبضعة أعوام على الرغم من أنها ستستهلك عقله كليّاً. بمعنى آخر، سيرمى بنا في سلّة المهملات في نهاية المطاف. تتطلب إعادة تدوير الأزياء أيضاً أن يعيد الناس تدوير أنفسهم - ملابسهم وممتلكاتهم وسياراتهم - على أساس سنوي أو شهري أو موسمي. حتى أننا نلاحظ الآن كيف أن الأزياء الجديدة تعيد تدوير أزياء العقود السابقة (السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات وما إلى ذلك). وإن لم تنتمِ إلى هذه الموضة طوال الوقت فلن تكون مواطناً حقيقياً في المجتمع الإستهلاكي.
على سيرة الوقت، أعتقد أن الوقت بدأ يداهمنا، وأنت مستعجل لقيادة سيارة الموستانغ الحمراء على الطريق إلى كاليفورنيا... كلمة أخيرة سيد بودريار؟
في الواقع، من المستحيل "إضاعة" الوقت لأن من شأن ذلك أن يُنتج شيئًا ذا قيمة: الشعور بالبريستيج - أن تملك ترف إضاعة الوقت، إستهلاك الوقت، شراء الوقت. تعامُلنا الحديث مع الوقت، ويشمل "إضاعة" الوقت أو قضاء "أوقات الفراغ" هو نتاج ثقافتنا ونظامنا الاقتصادي. وهكذا يصبح الوقت سلعة مثل أية سلعةٍ أخرى، وإن كانت أكثر ندرة وأغلى. يمكن تبادل الوقت مع أية سلعة أخرى، وخاصة النقود. Time is money my friend. يُفصل وقت الفراغ عن وقت العمل ويلتزم المرء بقضائه حتى يقضي علينا. نشرتهم في رحلة على غلاف العدد الأول بعد 17 تشرين 2019 عبارة "بدنا نسترجع الوقت المنهوب". كل هذا الوقت الضائع ليس وقتاً منهوباً، بل اشتريناه واستهلكناه حتى آخر لحظة ضجر، بملء إرادتنا. كل المجتمعات تستهلك الوقت وتنتج القمامة.
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة