في هذه الحلقة من "جغل بيزنطي"، نحاور المحلل النفسي النمساوي الأستاذ اوتو رانك، الذي تحوّل من مساعد سيغموند فرويد الأقرب إلى أحد أشد منتقديه. في سنّ مبكرة، استبدل اوتو اسم عائلته الذي ورثه عن والده ("روزنفلد") بـ "رانك"، فكانت تلك الخطوة أول ولادة أتمّها بملء إرادته. تمايز رانك عن فرويد بعد أن أصبح مهتماً أكثر بتجربة الانفصال عن الأم التي يختبرها الرضيع عند الولادة. فطّور فكرة أن الحرية، بمعنى الاستقلال عن الآخرين، هي الشرط الرئيس لتنمية القدرة الإبداعية. كما رأى الباحث النمساوي أن كيفية تعاملنا مع تجربة الانفصال عن الأم ستحدّد طبيعة الشخصية التي سنطوّرها لاحقاً. لم يكتف رانك بمئات التجارب الفردية التي وثّقها في عيادته، بل نبش في الأساطير القديمة أصول ولادة البطل الأسطوري ومغامرته في العالم الجديد بحثاً عن الإبداع والخلود.
أستاذ رانك، الناس تحبّ الإشاعات… فلنتحدث أولاً عن بداية علاقتك بسيغموند فرويد وأسباب الانفصال.
لا تصدق وهم الإشاعة. قبل دخول عالم التحليل النفسي، عملت في صُنع وتصليح الأقفال. لم يكن التعليم متاحاً نظراً لوضع العائلة المادي. فأصبَحَت قراءة الكتب وكتابة الشعر هوايتيّ المفضلتين. في 1904، بلغت العشرين من عمري. كنت أعاني اكتئاباً شديداً وصل إلى حدّ التفكير بالانتحار، ولكني تخطّيت هذه المرحلة بفضل ما أحسست بأنه ولادة روحية جديدة. وبعد عام واحد، قابلت فرويد وقدّمت له مقالًا قصيرًا عن "الفنان"، ربطتُ فيه بين نظرية فرويد عن تفسير الأحلام وطريقة خلق الفنان لعمله الفنّي. قرأ فرويد مقالتي فأُعجِب بمؤهلاتي وعرض عليّ وظيفة سكرتير لـ"جمعية التحليل النفسي" في فيينا. طبعاً وافقت، وبدل كسب المال عن طريق فتح الأقفال، بدأتُ فكّ عالم اللاوعي واستكشافه.
إن كنتَ ناسي أفكّكَك…
حاول من جديد لاحقًا... الآن، دعني أتابع. بقيتُ "يد فرويد اليمنى" لما يقارب الـ 20 عامًا. أصبحت العضو الأكثر نشاطاً في دائرة فرويد الصغيرة التي أسّسها للدفاع عن نظريته في التحليل النفسي ومن أجل مواجهة انتقادات كارل يونغ وألفرد أدلر. لكن مع نشري كتاب "صدمة الولادة" (1924) تغيّر كلّ شيء. أشاد فرويد بعملي في بادئ الأمر، ثم انتقده لاحقًا. حتّى أنه ألّف كتابًا كاملاً للردّ على طروحاتي! نسيَ أنني ساعدته بتأليف كُتبه. على كل حال، أعتقد أني، مع كتاب "صدمة الولادة" وانفصالي عن فرويد ودائرة الصبية الذين يتبعونه، تمكّنت من تحقيق ولادتي الثانية.
غريب عجيب uncanny، يبدو أن كل قرار بترك الوظيفة هو قرار صائب. لاحظت أن معظم العلماء الذين عملوا مع فرويد وعايشوه اضطّروا لاحقاً إلى قتله بطريقة رمزية. أعتقد أن ما استفزّ فرويد هو طرحك فكرةَ أن التروما لا تبدأ في مرحلة المراهقة وعقدة أوديب، بل في الانفصال عن الأم في مرحلة الولادة. حسناً، ربطّ الطوطم والدين والفن والأساطير وحتى العلاج النفسي بلحظة القلق التي يعيشها المولود الجديد عند الولادة. كيف بدأت بوضع أسس نظريتك هذه؟
غريزتان أساسيتان تُحرّكان مسار حياتنا: "غريزة الحياة" أو رغبة الفرد بالتميّز والحريّة، و"غريزة الموت" التي تدفعنا إلى الذوبان في العائلة والمجتمع. وهاتان الغريزتان تؤسسان من ناحية لـ "الخوف من الحياة" أو الخوف من الانفصال والوحدة، ومن ناحية أخرى لـ"الخوف من الموت"، أو الخوف من فقدان فرديتنا و"الزوال بين الحشود". إلا أن القلق الذي يزورنا باكرًا هو القلق خلال الولادة. هذه الصدمة النفسية هي المصدر الأول لنشوء القلق المتواصل في حياتنا. وهي ليست تجربة نفسية فقط، بل جسديّة أيضاً، ما ينعكس بيولوجيًا على الإنسان وعلى كيفية تلقّيه العالمَ الجديد الذي يخرج إليه من رحم الأم.
هذا الشعور يعود ليطفو على السطح مع كل تجربة جديدة. وفي كل مرة "نغامر" أو "نتهوّر" أو نبتعد عن "رحمنا" الاجتماعي، نولد من جديد.
كما يقولون في أمريكا: I can relate . استاذ رانك، سؤالي التالي مرتبط بكتابك "أسطورة ولادة البطل" (1909). في هذا الكتاب القيّم، تقول إنك وجدت مفاتيح تفكّ لغز أساطير شعوب وحضارات مختلفة تتحدّث عن حدث واحد: ولادة البطل. هل فعلًا تتشابه هذه الأساطير؟ وماذا يمكن أن نستنتج من كل ذلك؟
صحيح، اطّلعتُ على قصص ولادة أبطال من ثقافات مختلفة، فوجدت قواسم مشتركة عديدة: البطل هو ابن لأبوين من "النبلاء"، وعادة ما يكون إبن ملك. يواجه هذا المولود الجديد مصاعب كبيرة. الصعوبات تبدأ حتى قبل ولادته، مثلاً عدم قدرة الأم على ممارسة الجنس، أو العقم لفترات طويلة، أو علاقة سرّية بين الأم والأب نتيجة موانع خارجية. ثم تظهر نبوءة أثناء الحمل أو قبله، بواسطة حلم أو وَحي يُحذّر من ولادته. لذلك فإن المولود، محكوم عليه بالقتل حتى قبل أن يصل إلى هذا العالم. وكقاعدة عامّة، يتم تهريبه في صندوق ليطوف في نهر أو بحر. تساهم الحيوانات أو الرعيان في إنقاذه، وتقوم بإرضاعه امرأة من عامة الناس. بعد أن يكبر، يجد والديه الحقيقيين وينتقم من والده، فيعترف به الناس وبعظمة إنجازه.
فعلياً، هذا الخطر الأسطوري كان واقعاً لدى الإنسان الأول عندما كانت عملية الولادة صعبة جداً واحتمالات البقاء على قيد الحياة محدودة. ولا يترك تاريخ الثقافات والتقاليد مجالًا للشك في أن فعل القتل الوحشي داخل الأسرة الواحدة كان حقيقيًا في يوم من الأيام. كان لرب الأسرة الحقّ الكامل في تحديد حياة وموت أحد أفراد الأسرة على النّحو الذي يراه مناسبًا. تحوّلت هذه الممارسة تدريجيًا إلى أسطورة تتناقلها المجتمعات الأكثر "تحضّرًا". وهكذا أصبحت الولادة التحدّي الأول الذي يواجهه المرء، فإما يهلك وإما ينجو ويصبح بطلًا حقيقيًا. وكما أشرتُ سابقًا، هذه المغامرة تتضمن قتل الأب، بطريقة مباشرة أو رمزية، كقتل وحش حيواني (الأضاحي). ومن خلال إنجاز هدف القضاء على الوحش، يتحوّل البطل إلى مُصلح وفاتح ومخترع وبنّاء مدن ليشكّل أسُس الحضارة. أما اليوم، فأسطورة ولادة البطل، برمزيتها، تعادل مغامرة الطفل ونموّه النفسي وصولاً إلى سنّ المراهقة.
أستاذ رانك، هل يبقى البطل حيّا فينا؟ ماذا يحصل بعد أن ننتصر في رحلة المراهقة؟
الجواب بسيط: نخلق أساطيرَنا. الأساطير يصنعها الكبار عندما يعيدون تخيّل طفولتهم البطولية، ما يسمح لهم بأن يقولوا "أنا أيضاً كنت بطلًا". ولذلك، يبدأ القمع في المنزل مع الأب، في المدرسة مع الأستاذ، في الوظيفة مع مدير المبيعات. ونعلم من الأساطير أن الأبّ يريد أن يقتل الأمير البطل قبل أن يولد حتّى يبقى "ولدًا" تابعاً. طبعاً الجنرالات والسياسيون يكذبون ويدّعون البطولة والقدرة على تحقيق الانتصارات في الحروب، فيصنعون أساطير وأوهام لشعوبهم ليقولوا لهم: "أنا البطل، أنا مخلّصكم." على كل حال، اعتذر، لا أريد الإطالة، أنصحك بالاستماع إلى أغنية Working Class Hero لجون لينون والتركيز على الكلمات.
أيواااا، أحب هذه الـ song، وصديقي ابن رشدي العاكوم كان يعزفها دائماً. وبما أنك تحدّثت عن الموسيقى، ننتقل إلى الجزء الثالث من هذا الحوار. إنطلاقاً من كتابك "الفن والفنّان" هل يمكن للإبداع أن يكون الطريق البطولية للتحرّر والاستقلال عن السلطة بمختلف أشكالها؟
لما كان الوطن، كما أشرتم في مقابلة سابقة أجريتموها مع رولان بارت، هو وطن الطفولة المفقود، نميل غالباً إلى استبدال وطن الأم بيوتوبيا وبإيديولوجيات وأديان ومنتجات وبرامج استعراضية. ولكن من الأجدى أن نبحث عن الفن والفنّان الحقيقي، إن وُجد، أو أن نلعب هذا الدور إذا كنا نملك هذه الحاجة أو الرغبة. هناك أصل روحي مشترك لجميع الأيديولوجيات الجماعية. وأنا أعتبر أن الدافع الأساس هو فكرة الإيمان بالخلود، وهذا الاعتقاد هو الأيديولوجيا الأصلية التي، نظرًا لكونها أصبحت مع مرور الزمن غير قابلة للتصديق، تفرّع منها العديد من الأيديولوجيات المتجذّرة بشكل أكبر بالواقع، ولكن دائمًا ما تسير في نفس الاتجاه: الخلود.
ومن خلال إبداعاته، يحقّق الفنان الخلود المنشود بشكل فرديّ. بمعنى آخر، ينتج الفن عن الدّافع الشخصي للخلود. ولهذا السبب يمتلك الفنان دافعًا قويًا لإعادة خلق الواقع على صورته الخاصة (كمن يخلق الإنسان على صورته ومثاله)، أو تمجيداً لإرادته (ego). إلا أن الفن "الجيّد"، إذا صحّ التعبير، يبدأ من اتصال الفنان بثقافة مجتمعه وزمانه، فيجمع بين القيم الماديّة والروحيّة وبين فرادته وانتمائه للجماعة. الفنان، كفرد مبدع، يستخدم الشكل الفني من أجل التعبير عن شيء شخصي. ولذا، يجب أن يكون هذا الفرد مرتبطًا بالأيديولوجيا السائدة كي يستفيد منها بطريقة ما، ولكن عليه أيضًا أن يختلف عن الايديولوجيا السائدة، وإلا تنتفي حاجته إلى خلق شيء جديد خاص به.
إذا من هو الفنان الحقيقي؟ وكيف تدفعه الإرادة الذاتية إلى الخلق والإبداع وتوليد الأفكار الجديدة؟
الفنان "الجيّد" يتسلَّح بقوّة وإرادة الإبداع. ولكن الوصول إلى هذه المرحلة ليس سهلاً. فالشرط الأساس للإبداع هو الحرية، والحرية تعني الاستقلال، والاستقلال يؤدي إلى بناء الإرادة، والإرادة هي القوة الموجِّهة في تنمية الشخصية.
بناءً على كيفية تعاملهم مع استقلالهم، يمكننا تحديد ثلاثة أنواع من الإرادة في البشر. أولاً، نجد في المجتمع النوع الاتكالي: هذا النوع ضعيف الإرادة. سلبيّ تُحرّكه الواجبات الأساسية فقط، وينصاع إلى أوامر السلطات والقوانين الأخلاقية للمجتمع. ثانياً، النوع العصابي (Neurotic). إرادة هذا النوع أقوى من الشخص الاتكالي، لكنه غالبًا ما يعاني، داخليًا أو خارجيًا، أثناء محاولته التعبير عن تلك الإرادة. فيصيبه القلق في معظم الأحيان، ثم يشعر بالذنب نتيجة تصرّفات معيّنة. بغض النظر عن قدرته على الإنتاج، يعاني هذا النوع من حقيقة أنه لا يستطيع أو لن يتمكّن من تقبّل نفسه وفرديّته وشخصيتّه. فمن ناحية، ينتقد نفسه إلى حدّ الإفراط، ومن ناحية أخرى يُفرط في تعظيم قدرته بمعنى أنه يتوقّع الكثير من نفسه، فيخلق دوّامة من الفشل والنقد الذاتي. وثالثاً، النوع المُنتِج: هذا النوع هو النسخة المضادة للنوع العصابي، فيعرف كيف يستفيد من قوّة الإرادة ليخلق شيئًا بمفرده. غالبًا ما يكون الفنانون أو المتميّزون في مجتمعهم من هذا النوع.
لقد أصبتنا في الصميم يا استاذ. لذلك أريد أن اسألك، أعلم أنك لا تتابع مجلّة "رحلة"، ولكننا نحاول جاهدين كمجموعة أن نحافظ على استقلاليتنا على الرغم من الوضع السّيء في لبنان وبالرغم من انشغالاتنا الدائمة والبؤس الذي يحاصرنا في كل "زمكان" (كما يقول الزميل البارون). كيف تقترح أن نحافظ على استقلاليتنا، وكيف نحصل على الحريّة والإرادة اللتين، حسب قولك، هما شرطا الإبداع الفنّي؟
أولاً عليك أن تعلم، أن الاستقلال ليس حالة محدّدة، وليس فقط استقلالاً مادياً، بل هو ممارسة مستمرة، الاستقلال ليس هدفاً منشوداً، بل أسلوب حياة، وفي هذا الكفاح الفردي والجماعي، يمكنكم أن تجدوا الحريّة ومساحة الإبداع التي تبحثون عنها.
معك حقّ، الاستقلال ليس استقلالاً مادياً فقط، ومع ذلك أود أن أشكر داعمينا على "باتريون" الذين يساهمون معنا من أجل طباعة أعداد رحلة كلّ شهر. وفي نهاية هذا الحوار نشكرك أستاذ رانك على هذه اللحظات المميزة، ونتذكر العبارة الكانطيّة: Separe Aude، "تجرَّأ على المعرفة"، فنحن الآن لا نملك سوى الشجاعة والإرادة لنولد من جديد،
ونحن جميعًا نكافح،
نولد كلّ يوم،
رغم كلّ شيء،
ضد كلّ شيء.
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة