لفهم عمليّات الحكم، لا يمكن فصل سياسات الخارج عن الداخل، فالفصل بينهما فعل أيديولوجي تأسس وكأنه سورٌ فاصلٌ مُشيّدٌ ببراعةٍ؛ لا يمكن فهم السلطة، أي سلطة، إلا بإزالة هذا الحاجز الوهمي.
دُرّبَت أذهاننا تدريبًا مُحكمًا على التفكير الذي يعزل الداخل عن الخارج. عَوّدَتنا السلطة، كل سلطة، أن ما تفعله بيمينها في الخارج لا تعرفه يسارها في الداخل. أعيننا منذ الصغر شبّت على تمرينات سُلطوية حتى لا ترى سوى إحدى اليدين فقط. أصبح النظر للخارج والداخل باعتبارهما عالم واحد فعلاً يحتاج جهدًا مضاعفًا.
في أفعال الداخل، تُصدر السلطة منظومة قيمية، أو تدّعي تبنّيها، وتُنتج معها نموذجًا مثاليًا للمواطن السليم والمثالي. وتُصدر هذه السلطة في أفعال الخارج منظومة قيمية قد تتجانس أو لا تتجانس مع منظومة قيم الداخل ولكنها تعجز عن تكوين صورة واضحة للمواطن، أي أنها لا تقدّم نموذجاً أو مرجِعاً يعود إليه المواطن لأنه أصلًا صُمّم على أن يكون هو إبن الداخل، أو أحد عناصره. أنت هُنا وتلك حدودك ودعنا نحن نتعامل مع الخارج.
لذلك، يظهر الوعي بالخارج وكأنه صدمة تشقّ جدران الإنكار السميكة لأن حيز المواطن أصلًا لا يطال الخارج بعد أن تَأطَّرَ هيكليًا على أنه كيان داخلي.
ما يتجاوز الوعي
الداخل والخارج، الهُنا والهُناك فُصلا وكأنهما عالمان منعزلان بشكل تام، فصراع الذي هُناك، ضد السلطة هُناك، أو فِعل مقاومته لا يمكن رؤيته سوى من خلف حاجز أو فاصل، كأن تأسيس المكانية أو الجغرافيا الحدودية والركيزة الجيوساسية للدولة، يتجاوز الوعي وتفوق قدراته بفعل فاعل، أي بفعل السلطة.
أين القذائف الآن؟
هل دخلت القذائف إلى أرضنا؟ هل هي هنا أم هناك؟
لا يتوقف العقل عن التفكير.
الإبادة الآن على بُعد كيلومترات مني.
الإبادة في الخارج، ولكن جغرافيًا في شبه الداخل، والإبادة تفتت الحاجز بين الداخل والخارج.
يبُاد البشر، ولكن المعاهدات تبدو على ما يرام بل يبدو أن ثمة معاهدات لا يُحكى عنها تمامًا الآن.
كلما تقترب الإبادة يصبح الإنكار مهمة أكثر صعوبة.
ثمة موائمات تحدث الآن في مصر وفي كل دُول المنطقة، في الداخل والخارج بشكل ما، ولا أحد يعرف مداها، لكن الجميع يعرف أن الحسبة إقتصادية بالأساس وأن الدولة الآن، كل دولة، تُحركها مجموعة شركات أو أنها هي الشركات، والسيناريوهات كُلها محتملة، كُلها بلا استثناء لتحقيق مصالح الشركة.
كيف توقف الإبادة وتلك القوة الوحشية؟ كيف يمكن تفتيتها؟ وهل يمكننا أن نُعيد من ماتوا إلى الحياة؟ ما هو السبيل؟
وأنت لا مواطن، أو مواطن صُممت لتكون عنصرًا من عناصر الداخل، موضوعًا في إطارٍ، يمنع عليك أن تمتد إلى الخارج.
المشكلة إذن في الحاجز أو المسافة التي تصوَرتها عقولنا بيننا هُنا وبين الآخر هُناك، تلك المسافة التي أسستها السلطة.
هذا الحاجز بين الهُنا والهُناك يُشعرنا بالعجز، ويُتيح لنا أحيانًا أن نشوه الآخر، باعتباره بطلًا مُحتملًا يُنقِذنا أو نرى أنفُسنا مثل أبطالٍ مُحتملين ومُنقِذين للآخر.
وساهمت في هذا التصوُّر بشكل خاص محدودية السينما والأدب والتاريخ؛ فحين نرى الآخر يُقهر، نسرح ونقول:
«أنا مُتعاطِف جدًا وحزين عليك ولا أنام. أفكِّر كيف أُنقِذك، كيف أُحرِرك وأحل الأزمة؛ أزمتك الخاصة بك هُناك، وليست هُنا».
قالت الناشطة والفنانة «ليلا واتسون» ذات مرة:
«إن كُنت تأتي إليَّ لمُساعدتي أو إنقاذي فأنت تضيع وقتك، أما إذا جئت لأن حُريتك لا يُمكِن فصلها عن حُريتي، إذن فلنعمل معًا من أجل حُريتنا».
وبصيغةٍ أُخرى، إنك إن سعيت لحُريتك هُنا، تُساهِم في حُرية الآخر هُناك، وإن سعيت لحُرية الآخر هُناك، تتحرر هُنا. لأن المسافة بين هُنا وهُناك، والحاجز بينك وبين الآخر، وهمٌ في عقلك.
الفرد الذي تَأَطَّرَ باعتباره مواطنًا داخليًا أصبح محمّلاً بأعباء الداخل ومكبّلًا باقتصادياته في ركضٍ مستمرٍ خلف ما هو غير مُشبع وقُدِّمَ له الخارج باعتباره عالمًا واحدًا، وكُلًا متّصلًا، وكيانًا تكنو-اقتصاديًا يمكنك فهمه بسهولة وإضافته لوجبته «الكومبو» في مطعم الوجبات السريعة: كيف يمكنه الخروج من الإطار والتخطي إلى ما وراء العالم الصغير؟
في حالتنا، أي الفرد اللامواطن المقهور والخائف والعاجز أمام بطش السلطة وجنونها في الداخل؛ هل يمكن كسر إطار الداخل المرسوم لنا لنكون قادرين على الفعل الخارجي؟
ربما بالمقاومة؟
فمقاومة السلطة هي السبيل للخروج من الإطار والامتداد إلى الخارج؛ لأن السلطة، أي سلطة، هي كيان ممتد داخليًا وخارجيًا.
المقاومة إذن بالضرورة هي امتداد بين الداخل والخارج.
المقاومة هي فرصة الاتصال مع الآخر المقاوم في امتداد كوكبي، من خلال نِضالٍ عالمي ممكنٍ، هي أيضًا سقوطٌ للحواجز كافةً بين هُنا وهُناك، بين الداخل والخارج، بل هي رفضٌ لتلك المسافة المبنية على الحدودية والتأطير السلطوي. هي المستحيل.
ثمة مقاومةٌ ينخرط فيها المنفيون الفالتون أو الهاربون من إطار الداخل إلى إطارٍ جديدٍ، مثل المهاجرين أو اللاجئين، مقاومة الفرد الذي يسعى للتأطر باعتباره مواطنًا في بلد جديد، هي أيضًا مقاومة يمكن أن تكون بطبيعتها مقاومة من الخارج أو مزج بين الخارج والداخل. وهي لا تخلو من المخاطرة وإن كانت لها في بعض الأحيانِ مساحات وفرص أوسع أو لنَقُل على الأقل مختلفة عن مقاومة الداخل المحصور، حتى وإن بدأت على شاكلة مقاومة داخلية داخل الإطار الجديد.
ثمة مقاومةٌ أخرى تخص المحصورين الممنوعين، اللامواطن أو المواطن المؤطر باعتباره عنصرًا داخليًا، هي مقاومةٌ تبدأ من الداخل بالضرورة وقد تعني في منطقتنا أيضًا المخاطرة غير المحسوبة أو الموت!
كيف نموت بالذي حسبناه لنا قيامة؟
لو أزَحنا تعريف المقاومة من الموت إلى قيامة، كيف نقاوم إذن حتى القيامة دون المرور بموت، حتى وإن صُلبنا؟ هل علينا إذن أن نراوغ؟ أم نعيد تعريف المقاومة؟ ربما نبدأ من المراوغة ذاتها بإعادة التعريف؟
إن كانت المقاومة هي لقاء الهُنا والهُناك، فهي ليست أبدًا اتحاد الظاهر مع الباطن، أي أن المقاومة هي الكشف من أجل الإخفاء والإخفاء من أجل الكشف.
فإن كانت المقاومة هي قيامة الراقدين فهي قيامةٌ سرّيةٌ وسرائريةُ وتحدث مباغتةً بلا نزولٍ إلى أعماق الجحيم.
إن كانت المقاومة هي الكُفر فهي كسرٌ لكل صنم وسقوطٌ لكل مقدس دون إعلان الكُفر على المَلأ.
إن كانت المقاومة هي طعنةٌ للوحش من أجل الحق والحرية، فهي طعنةٌ للوحش في الظهر تُقيَّد ضد مجهول.
في النهاية، المقاومة ربما هي المانفيستو غير المكتوب أو مانفيستو مُشفّر مثل الأكواد لإعادة برمجة الواقع أو لقرصنة الواقع المُبرمج لتفكيكه.
ليس بعد؟ أكيد، لن تكون اعادة التعريف اختباراً سهلاً، فقد كانت المقاومة في صورتها الطوباية الموروثة موت من أجل القيامة، واليوم صارت المقاومة في ظل بطش السلطة موت بلا أي قيامة تتبعه، من يموت مقاومًا اليوم، يدفن ويُفنى وتُمحى حتى ذكراه، لذا أطرح أنه ربما علينا الآن أن نبتغي مقاومة جوهر تعريفها هو قيامة بلا موت يسبقها، نحن لم نعد في حاجة لمقاومةٍ الموت في جوهرها لأننا في انحصارنا ونَفينا بالفعل ميّتون!
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة