الهوية كصيرورة تتشكل بهذا التفاعل الكائن بين الفرد والسُلطات تحمل على أكتافها سرديات التاريخ.
السردية التاريخية هي إنتاج معرفي ثقافي ذو أبعاد اقتصادية واجتماعية، يتشبه ظاهريًا بالعلم، ولكنه أيديولوجيًا مبني على أُسطورة التمسُّك بالأصل.
تلك الأيديولوجيا لكي تتشكل تحتاج لسؤال غير مُزيّف، وبالتالي تربُط نفسها باحتياج بشري طبيعي، فتستند على السؤال الوجودي والأنطولوجي عن ماهية أصل الإنسان، فكل إنسان يحمل بداخله هذه الأسئلة: من أين أنا؟ من أين أتيت؟
ومنها يسعى لمعرفة السؤال الثالث: لماذا أنا هُنا؟ أو بصيغةٍ أُخرى: لِمَ الحياة؟
وانطلاقًا من السؤال الأصيل الوجودي، الذي تبدو إجابته بالأساس مسعى فردي ذاتي وجماعي مُجتمعي؛ والجماعة هنا ليست الجماعة البشرية الكوكبية بل هي جماعة أو جماعات مُتداخلة ينتمي لها الفرد وتتشكل بداخلها سُلطات مُختلِفة تضع للفرد بنية الأيديولوجيا بسردية تاريخية جاهزة مُسبقًا، انطلاقًا من ذلك، تتشكََل أسطورة الأصل وتشفي غليل السؤال الوجودي بشكل ظاهري سطحي وتحوّل السؤال من سؤال وجودي خارج التاريخ إلى سؤال داخل التاريخ، وداخل أُطر دينية قبلية وسياسية قومية واقتصادية طبقية؛ وبالطبع، لأغراض تحقق مصالح دائمة أو مؤقتة لتلك السلطة.
ويعيش الفرد في كنف السردية كأحد الأفيونات الضرورية للاستمرار، للخلاص من عذاب انعدام الإجابات عن تلك الأسئلة الضرورية، وكثمن للإزاحة إلى داخل التاريخ. ذلك أن استحالة الإجابة تعني الألم، والألم يحتاج إلى أيديولوجيا والأيديولوجيا تحتاج إلى سردية.
والهوية؛ مَنْ أنا؟ الإنسان الصيرورة التي أُلقيت في العالم وتقاوِم وتشكّل وتصوغ المعاني عن الذات والعالم والآخر، إلى أنا الأيديولوجيا أي القومي والديني والطبقي، ومُعاناة أنا الوجودي تحتاج إلى ضخ مُستمِّر لتلك الأيدولوجيا في الهوية المؤقتة لتخفيف ألم الوجود. والفرد ينسحب بفعل فاعل من الأسئلة الوجودية ومُحاولات تشكيل المعنى الذاتي أو العالمي إلى أسئلة أُخرى تتعلق بضدية مع آخر قومي أو ديني أو طبقي، وهذا الآخر يُهدده أو يُشكل فرصة بحيث ابتلاعه أو الاستيلاء عليه.
ولكن تلك الأسئلة يستحيل الإجابة عليها لعدة أسباب. أولًا، لأنها تحصر المساحات العلمية في أهل التخصُص وتسطو على المساحات الفلسفية و تصادر اي سؤال ميتافيزيقي للوجود.
ثانيًا، لأن السُلطات نفسها تعدّل الأسئلة نفسها وتعطي إجاباتٍ جاهزة عليها داخل الأُطر الأيديولوجية.
ثالثًا، لأن تلك الأسئلة بطبيعتها أصلًا مُستحيلة وتنطوي على القلق والعذاب، وهي أساس الاغتراب البشري، فهي تكمُن في تلك المساحة بين الذات وصورتها في المرآة.
لكن السُلطات التي تتحكم في الفرد وتعطي هويته بالسرديات، لا تقدم سرديات مُتناسقة ومُتناغِمة، بل يستحيل توليفها في أغلب الأحيان.
وهنا يُستبدَل الاغتراب الوجودي الأصيل باغتراب أيديولوجي سُلطوي لعجز الفرد عن مزج السرديات، فتعود كجسم مُمَزق عاجزٍ عن التجانس وعن النظر إلى صورته في المرآة.
أيديولوجيات الدين يتعاكس بعضها مع بعض، وتتضاد مع أيديولوجيات السياسي القومي. وتقف تلك السرديات عقبةً أمام الاقتصادي الطبقي، وغيرها من السرديات السُلطوية طويلة الأمد وقصيرته، كخيوط يستحيل نسجها.
والايديولوجيات التي تغذّي الهوية قد تتضمن الأيديولوجيات النابعة من السلطات التي تقدَّم للفرد كسلطات خارجية أو عالمية، لآخر مهيمن أو معادٍ أو مثير وهي تضاف كحمل لصورة الذات عبر سلطة الآخر المجهول أو الغريب أو القوي أو الضعيف وهي تزيد من استحالة النسج الهوياتي.
ولعلّه في عُمق التمزُّق هذا تكمُن فرصة الكفر بسرديات السُلطات جميعها، وتقطيع الخيوط للتخلي عن ذات السرديات المُمَزقة.
فإن كانت السُلطات والقوى المُتشابهة غطت، من دون قصد، على اغترابنا الأصيل باغتراب التمزُّق السردي، فعلينا أن نتماهى معه ونغترب عنه في نفس الوقت كأننا نتحرّك نحو قبول استحالة مزج الذات وقبول التمزُّق.
الذات المؤدلجة تتشكل كتمزُّق، نتيجة لوجود السُلطات وسردياتها، فهي ليست سابقة على السُلطات.
الذات بلا الذات المؤدلجة، أي بلا سُلطات، هي خارج الفرد ومتّسعة لتشمل كل مساحات الوعي في ديناميكية مع آخر، ولكنها لا تسعى إلى ابتلاع الآخر أو مُعاداته، ولا تضع حدودًا واضحة لـ "الآخرية"، وهكذا تتمتع باغتراب حُر اختياري جديد لأنها تعيش في عالمنا ولكن كأنها في عالم آخر لادين فيه بلا طبقات ولا حدود بين الدول.
فإن كانت الحركة نحو الإغتراب الحرّ هي قفزة، فهي إذن قفزة قد تستند فيها القدمين بحذر على إغتراب التمزّق الايديولوجي، قفزة من الإغتراب إلى الإغتراب.
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة