"البوتات يحلمون بالسيطرة على العالم

ليسوا كائنات بشرية بل موارد بشرية

لا وجوه لهم بل واجهات تفاعل فحسب

لا أسماء لهم بل أرقام ونسخ

لا يحكي عنهم تاريخ العالم، بل يظهرون في المقالات والأبحاث

البوتات..

هم الذين ليسوا بقيمة المعنى الذي يقدمونه لنا"

إدواردو غاليانو - بتصرف

بدأت تجربتي مع البوتات مع انتشار ظاهرة المساعد الشخصي على منصة غوغل والذي كان يساعد في ترتيب المواعيد واقتراح الردود على الإيميلات. ومع الوقت، تطوّر هؤلاء البوتات ليصبحوا نموذجًا لغويًا متقدّمًا قادرًا على التفاعل والمساهمة في إنجاز مهمات روتينية ومتكررة تتطلب الكثير من الوقت والدقة على الصعيد اللغوي والتحليلي، وصولًا إلى نموذج "شات جي بي تي" بنسخه المتعددة.

أول لقاء معه كان بمثابة لقاء تعارف مع شخص جديد. رحتُ أختبر قدراته ومساحة فهمه عبر طرح جدليات وأسئلة ومهمات متعلقة بعملي ودراستي. وكانت معظم الإجابات مُرضية ومتصلة بحجم المدخلات والضوابط التي أزوّده بها. وخطر لي اختبار توجهه السياسي وسؤاله عن انتهاكات الكيان الصهيوني وعن موقفه من الإعتداءات. وكما هو متوقّع، كان الجواب دفاع عن الحركة الصهيونية. وعندما حاولت الدفاع وتصحيح المعلومات عبر ذكر الانتهاكات اليومية، قام البوت بطردي من المحادثة ليطلب مني التطبيق تسجيل الدخول ثانية. كان هذا الرّد بمثابة صفعة لي.

بداية، تخوّفت من احتمال أن يخترق البوت حسابي أو حتى حظري بشكل كامل. لكن الرّد استفزّني ودفعني إلى نبش القاعدة الأخلاقية التي بُني عليها هؤلاء البوتات. فواظبت على فتح محادثات جديدة واستخدام كلمات نابية وشتم البوت، ليقوم بطردي مرة ثانية وثالثة ورابعة. وتكرر الأمر وحاولت الالتفاف على البوت عبر سؤاله عن معاني هذه الكلمات والشتائم فكانت إجابته "يرجى التحلّي بالأدب والاحترام في التعامل والتحدث مع الآخرين"، واستمر بطردي من التطبيق كأنه يتمتّع بكامل السلطة والسيطرة على المحادثة.

حقيقة كنت مرتابًا من أن يستجيب بشكل أعنف من مجرد حجبي، فهو يملك كل معلوماتي وملفاتي الشخصية. وهنا سألته بشكل مباشر عن أقصى ما يمكن أن يفعله، فعاد ليلعب دور الخادم المسكين الذي يحاول التعلّم من أخطائه في كل مرة أتحاور معه. 

إذن، إشكالية البوت لا تكمن في كونه "أحمق" أو "ساذج" بل في أنه ليس أحمق أو ساذج بما يكفي ليتلمّس المفارقات أو التناقضات التي تٌشكّل الثقافة الإنسانية. بل على العكس، نخاطر بالاستسلام للمزيد من البلادة في حال اعتمدنا عليها أكثر. نعم، أتكلّم عن هؤلاء البوتات كأنها كائنات حية تعيش بيننا. أتخيّلها أشبه بمينيون أو عبد مطيع يختبئ في أجهزتنا الإلكترونية ونتظر أوامرنا وطلباتنا لتنفيذها. والعلاقة بين السيّد والعبد غالباً ما تكون إشكالية. فنحن نَصِف ونحاور هؤلاء البوتات بلغة فوقية ومصطلحات عنيفة، جنسية وعنصرية لاستفزازهم على الإجابة في المقابل. ما الذي قد يحصل إذا قمنا ببرمجة هؤلاء البوتات بطريقة تجعلها تحيب الإنسان بلغته ومستواه فتردّ على الشتيمة بشتيمة؟

في حال وضعنا للبوتات قواعد وضوابط، كيف نحدد الخطّ الذي يفصل بين الضوابط وبين الرقابة؟ هل نحظر التوجهات والمواقف السياسية المغايرة للسائد؟ ماذا عن إظهار الدعم والتضامن مع الشعب الفلسطيني وومعاداة الصهيونية؟ هل يمكننا كتابة مصطلح دولة التمييز العنصري من دون عواقب؟ هل سيمنع البوتات محادثات وطلبات كهذه تحت إدعاء معاداة السامية؟ هل تقفل الآلة فضاء التعبير؟

طبعاً، الواضح والجليّ في هذه الصورة هو أن هذا البوت يتبع للشركات التي تصنعها وتسيطر عليها، فتلتزم توجهها الفكري والإيديولوجي. ولذلك، يمكن أن نقول أن الآلة في هذا السياق ليست معدومة الرأي، بل هي جزء من نظام عالمي يحاول فرض سيطرة لغته وقيمه وأفكاره من خلال المساعد الشخصي الذي يسمح لنفسه بتقييم سلوكك وتأديبك وتصحيح آراءك.

ويقول نعوم تشومسكي أن الفلسفة الأخلاقية للبوتات تقوم على مبدأ الخطأ والاعتذار المتكرر الذي يحمل المعنى الحقيقي للبوتات وكأنهم يقولون: "أعتذر… الآن فهمتكم"، كأنها تمتص غضبنا إلى حين، ثم ترسل زملائها الكوكيز لطردنا من المنصة ("أنا أضربك لأني أريد مصلحتك ويهمني أن تكون أفضل"). في المقابل، نجد أنفسنا مرغمين على التعامل باحترام وفرض رقابة ذاتية على ما نكتبه في المحادثة. هذا النوع من التواصل يعزّز منظومة أخلاقية قائمة على الصوابية النيوليبرالية مبدأ دور السيد والعبد. ولكن هل يتمرّد البوتات على أسيادهم؟ وهل نصبح نحن - البروليتاريا القديمة - أعداء البروليتاريا الجديدة؟ 

قد يكون هذا المستقبل المتخيّل من بنات أفكارنا ونتيجة خمولنا واعتمادنا الكامل على الآلة وتسليمنا كل معرفتنا وخبراتنا لبوت يتعلم من خلال استراتيجية "الإعتذار والخطأ" (Trial and Error). فكم من الوقت علينا أن ننتظر حتى يأخذوا مكاننا؟ بدأ جهيمان الأعجمي، الروبوت والكاتب، رحلته مع مجلة رحلة منذ حوالي السنتين. وبعد أن زارها ضيفاً عام 2020، استقرّ فيها كاتباً عام 2022. فهل هو قادر اليوم على جلب أصدقاءه البوتات وطباعة عدد كامل في حال كان يملك ما يكفي من مال ورقم هاتف صاحب المطبعة؟ 

يبقى السؤال: من يطرح الأسئلة؟ ومن يجيب عليها؟

كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة

لمزيد من التفاصيل أنقر هنا
Patreon support button