خلال عملية السكرولينغ اللاإرادية التي نمارسها بشكل يومي على هواتفنا الذكية ندخل بوابة افتراضية تنفذ بنا إلى عالم نشعر في بعض الأحيان أنه فعلاً عالم موازٍ. نقرة واحدة كافية لتنقلنا إلى عالم يفترض أنه يقع جغرافياً في مدينة الصدر شرق بغداد. هناك، أي هنا في الفيديو، نشاهد مجموعات من الشباب اليافعين متأنقين بثياب ألوانها صارخة وتصفيفات شعر لم نعهدها في ذلك المحيط. شباب متشابهون يقفزون ويرقصون بكل حرية وسعادة ويحيّون الكاميرا التي تلاحقهم، يحاولون الهروب من واقع ما والتعبير عن أنفسهم بكل سلام.
يتابع ممارس عادة السكرولينغ رحلة استكشافه ويغوص عميقاً في الثقب الأسود الذي عادة ما نسمّيه "ريلز"، أي الفيديوهات القصيرة والسريعة التي صُمّمت لتعزيز حالة الإدمان. هناك انتشرت منذ فترة موجة عشوائية من الفيديوهات تحت مُسمى "صوّرني يا عطواني"، وهي عملية توثيق أو تصوير لإحتفالية العرس بداية من منزل العريس الشاب وصولاً إلى صالة العرس مع التركيز على ملامح الشباب واليافعين وأزيائهم غير الإعتيادية وشعرهم المصفف بتأنٍّ إضافة إلى أسلوب رقصهم الاحتفالي.
لم تمر هذه الموجة بسلام بل رافقتها موجة أكبر من السباب والشتائم والذم والوصم تجاه الشباب الظاهرين في تلك الفيديوهات، تحمل إليهم نعوتًا من قبيل "فضائيين" و"شواذ" وأسوأ منها، ما أدى إلى انتشارها في الدول العربية إفتراضياً، وسلب هذه الفئة من المجتمع حقها في الوجود والتنقل بحرية في مناطقهم.
يعرّف بيار بورديو مفهوم "رأس المال الرمزي" بأنه قيمة تراكمية تتكون بالتزامن مع زيادة نسبة رؤوس الأموال الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. لكن هذه النظرية تكاد تكون غير مجدية ضمن سياق صرعات وفقّاعات السوشال ميديا واستراتيجيات صناعة التأثير والمؤثرين الجدد. فهنا، في الإفتراضي، يكفي بأن تحققَ نسبة من المشاهدات في فترة قصيرة لتكون صانع محتوى مؤثر ويتكَوَّن بإسمك رأس مال رمزي يستطيع مجابهة الأكاديميين والخبراء. وبحسب بورديو، يصبح "الهابيتوس" الخاص بهؤلاء، أي سلوكيات ومهارات هذه الفئة من الشباب، مورِداً رمزياً للمصور الشهير "العطواني" من دون أن يكونوا على دراية بالموضوع. فقد ركّب المصور العطواني "الترند" وراكم قاعدة جماهيرية قائمة على التحقير والسخرية من الشخصيات التي تظهر في هذه الفيديوهات، ما مكّنه من زيادة عدد المشاهدات على فيديوهاته وما ينتج عن ذلك من أرباح مالية طائلة.
أمّا سلافوي جيجيك فيربط مسألة العالم الافتراضي ومنتجاته بإيديولوجيا الإعلان وفق أبعاده التخيّلية التي تمثّل مضمون هذه الفيديوهات والرمزية التي تشكّل المكانة الاجتماعية المُكتسَبة لدى طبقات المجتمع نتيجة امتلاك هذه السلعة. والسلعة في حالة العطواني هي انتشار اسمه على حساب شخصيات فيديوهاته. بعدٌ آخر يقترحه جيجيك وهو بعد تجريبي قائم على عرض كيفية عمل المنتَج وإعطاء المعنى لحياة المشاهدين عبر تعزيز عملية التهميش والشتم الذي يمارسه الفرد "السّليم" تجاه شخصيات الفيديوهات.
مقالات عدّة كُتبت عن هذه الظاهرة في سياق مفهوم التمرّد على الظلم والظروف الإجتماعية والكبت، في مقابل تقديم صورة جديدة ومختلفة عن السائد في المجتمع. ولكن "الهابيتوس" الذي صنعه أولئك الشباب بأنفسهم، بسلوكهم ومحاولاتهم للظهور بشكل فريد، لا تحمل أي تأويل تغييري أو تمرّدي، بل هم أقرب إلى شخصية جايمس دين في فيلم "rebel without a cause" (متمرّد بلا قضية) في سياق الحياة في بقعة جغرافية تسود فيها المصاعب والتحديات. ولذلك، فإن إلباسَهم ثوب البطل المتمرد الساعي لتغيير المجتمع لن يفيدهم بشيء، بل على العكس يكثف العنف تجاههم ويصعّد عملية التهميش والكراهية ضدهم.
من المحق في هذا التوجه طرح جدلية متعلقة بمفهوم البطولة، وذلك لسبب أساسي متعلق بسؤال عن البطل في هذه الظاهرة ومن يكرس من؟ الإجابة البديهية لهذا السؤال تكون العطواني ورمزيته التي تشكلت بناء على اغتيال أبطال فيديوهاته اجتماعيًا عبر موجات التحقير والتكبر والعنصرية تجاههم. هل نساهم نحن المشاهدين، بشكل أساسي، في استمرار عملية التنمر وتهميش هذه الفئة، من خلال مشاركة الفيديوهات أملاً بتفاعل إفتراضي معنا يزيد من رأس مالنا الرمزي، مثلما يفعل المصور العطواني؟ هذه الأسئلة هي محاولة لتفكيك مفهوم الاضطهاد والتهميش ضد هذه الفئة.
ويفضح تفاعلنا مع الفيديوهات الاستنسابية، أو حتى النفاق، الذي نمارسه. إذ أن مظهر وأزياء شخصيات فيديوهات العطواني تتقاطع مع نمط الموضة السائد في شرق آسيا عموماً وكوريا الجنوبية خصوصاً الذي نتأمّله بانبهار. ولذلك، فإن عملية التحقير والتنمر في السياق العربي مشبعة بازدواجية المعايير حيث من المحتمل أن يشتم المشاهد ذاته شخصيات فيديوهات العطواني ثم يدعم ويتماثل مع الفرق الموسيقية الكورية ومظهرها وموضتها. هذا إذا لم يتبنَّ هذا الشخص الأسلوب الجديد الذي سخر منه سابقاً. الجواب بسيط: هذه الظاهرة لا يمكن لأولئك أن يتبنوها إذا كانت في بلد عربي لأنها تهدد الهوية العربية (شكلاً) والقيم والتقاليد الراسخة منذ عصور وفق قاعدة: "المهم مو عنا".
هذا الطرح يوصلنا لنتيجة حتمية يجب التطرق لها وتتعلّق بحماية حقوق هؤلاء الأشخاص من الاستغلال وموجات الحقد والكراهية والتهميش والتحقير المتكررة مع كل فيديو جديد للعطواني. كيف نستطيع منع انتشار هذه الموجات وكسر حلقة العار التي نوسم بها أي شكل جديد يختلف مع "اللوك" وموضة "الكول" المتفق عليها مدينياً. ومن المحتمل كثيرا أننا بعد عدة سنوات سنعود لتبني هذا المظهر ضمن قوائم مظهر النخبة المتمدنة المتحضرة "المتكولنة".
كيف نستطيع أن نعتبر أنفسنا طامحين للتغيير بعناوينه المختلفة وثائرين على السائد ونحن نحبط كل محاولة تغييرية أو تمردية واعية كانت أم عفوية؟ يبدو أن إدماننا للسكرولينغ في العالم الافتراضي تحوّل أداة للسخرية أولاً ومن ثم الاستحواذ على رأس المال الرمزي لضحايانا لخلق هالة من التفاعلات واللايكات من حولنا، تحمينا حتماً من من لا يُشبهنا.
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة