كما تحبّ الأمّ/ طفلها المشوّها/ أحبّها.../ حبيبتي بلادي
سالم جبران
جنّات على مدّ البصر
أترك تلّ الشمّام ووجهتي قرية لد - العوّادين المهجّرة. لم أسمع عن هذه القرية من قبل. أحيانًا، أستعمل خارطة رقميّة عبرية للمشّائين في الوعور أعدّها المستعمر. على الخارطة دوائر بألوان مختلفة، تدلّ على أماكن لم تعد قائمة على الأرض. المسار المؤدّي إلى هناك، يمرّ بخمس مستعمرات بُنيت بمحاذاة، أو على أنقاض، قرى فلسطين؛ شمالًا أشاهد جباتا وخنيفس وعين البيضا. قبلها، مررتُ بالورقاني، تحاذيها مستعمرة "كفار باروخ"، حيث يقبع أنبوب نفط كركوك-حيفا وسكّة حديد الحجاز في الجهة الشماليّة، ولكنّها جنوب خطّ النفط.
أجلس على جسر صغير لخطّ سكّة الحجاز. أنظر حولي سعيدًا؛ لقد مشيتُ مستكشفًا سكّة الحديد، بجميع خطوطها في فلسطين. واستكشفت بعدها، خطّ النفط من الطَّيبة إلى الشريعة. والآن أستكشف كلّ القرى المدمَّرة الواقعة في هذه الناحية من المرج. سعيد بما أرى! أدور حولي، أنظر في كلّ الاتّجاهات: "جنّات على مدّ البصر". هو وطني، أعود إليه برغم أنّي لم أغادره (بفضل أهلي!).
مهرجان
سنة 2003، التقيت بصحافيّ وناقد أردني، في أحد المهرجانات. طلب منّي مقابلة صحفية، ودارت أسئلته حول أفلامي وفلسطين. أجبت: "فلسطين وطنٌ، أفلامي وطن الخيبات والضحيّة والغربة والتحدّي والمتاهات والمقاومة والأمل. هي بحث عن مكان وأحاسيس ووجود، علّني أفهم ما حلّ بنا". تحدّثتُ بشغف عن عشقي لوطني. قبل أن أذهب، وبينما يدي في يده، قال:" أَصْلي من فلسطين، من التركمان، من قرية بجوار حيفا. طُرد أهلي سنة 1948". لم أسمع عن قرية في جوار حيفا بهذا الاسم. كانت هذه أوّل مرّة أعرف أن في نسيج فلسطين مكوّنًا تركمانيّا.
ياجوج وماجوج
عاشت في مرج ابن عامر، قبل أن يدمرّها المستعمران البريطانيّ والصهيونيّ، 150 قرية. بقي منها اليوم خمس عشرة قرية وحسب.
مشيت قبل أربع سنوات في المرج، متتبّعًا آثار سكّة حديد الحجاز. سمعت في طفولتي أن سرسق "باع المرج لليهود" وهو أرض زراعية، سمعت ايضًا أن "أهل الناصرة كانوا يعزبوا بالمرج ويفلحوا". بالنسبة إلى الصهيوني، المرج كان مهجورًا. واستعانوا لدعم ادعائهم بتوصيفات الرحّالة الأوروبيين للمرج الذين ذكر أكاديمي صهيوني أنّ عددهم كان 350 شخصًا. قال الأكاديميّ المذكور إنّ أوّل وصف للمرج يعود إلى القرن الثاني عشر أو الثالث عشر الميلادي، وإنّ أحد الرحّالة الألمان ادّعى أنّ المرج هو مسرح معركة الخلاص بين يأجوج ومأجوج. أمّا الفلكلور الشعبيّ والأكاديمي للمستعمِر الصهيوني، فيضيف أنّ المرج كان عبارة عن بصّات (مستنقعات).
التركمان
تضمّ الخارطة الرقميّة شرحًا عن الأمكنة المختلفة التي يمرّ فيها المشّاء. وهي خارطة صهيونيّة إنجيليّة، يستطيع كلّ مستخدم لهذا التطبيق أن يضيف ملاحظة أو معلومة أو شرحًا عن أيّ مكان يمرّ فيه. لا يُخفي المستخدِمون الصهاينة معلوماتٍ عن القرى المهجَّرة، إلّا أنّ سياقها هو سياق إنجيلي (صهيوني): وجود الفلسطينيين "غلطة تاريخية"، وأسماء القرى تحريف للأسماء التوراتيّة، و"التي قامت على أنقاضها القرية العربيّة". وكان عالم اللاهوت الأمريكي البروتستانتي روبنسون، مؤسّسَ هذا الفكر "العلميّ". وهم، المستخدمون الصهاينة، تلاميذه.
حين مشيت المرج متتبّعا سكّة حديد الحجاز، قرأتُ اسم لد - العوادين على الخارطة الرقمية. وهذا نبّهني إلى أنّ البلدة سكنها التركمان؛ فتذكّرت صديقي الصحافي الناقد من المهرجان، ولكنّ قربَ البلدة من الناصرة لا من حيفا حيّرني.
أنا الآن على بعد كيلومترين من لد - العوادين، في بقعة يلتقي فيها خطّ نفط كركوك العراق - حيفا، بسكّة حديد الحجاز والحدّ الفاصل في "قرار التقسيم بين الدولة العربيّة والدولة اليهوديّة". فتحت الخارطة الرقمية. رأيت دائرتين على الموقع المشار إليه بدل دائرة واحدة؛ أشارت الأولى إلى ما عرفته سابقًا من شرح صهيوني عن معارك دارت بين المستعمِر (بقيادة بريطانية ومسلّحين صهاينة) وثوّار فلسطين، حيث "قتل 19" من الثوّار وعادت قوات المستعمِرين إلى "قواعدها بسلام"، وقد كتبها مستخدمون صهاينة. أمّا الدائرة الثانية فأشارت إلى أنّ "لد - العوادين هي أنقاض قرية فلسطينيّة "تركها أهلها سنة 1948، وقد بلغ عدد سكّانها 750 نسمة حينها"، أمّا محرّر الإشارة ففلسطيني.
راحيل
في كتاب السيّدة من تلّ الشمّام، المشار إليه في المقال السابق، اقتباسات من مذكّرات أحد المستعمرين: "حين هدَّدْنا العربَ من قريتَي القيرة والقامون، كنّا نقول لهم سنأتيكم بشباب لد - العوادين… هكذا كنّا نسمّي شباب كفار باروخ (مستعمرة ملاصقة لمستعمرتهم)، والذين كانوا معروفين بقوّتهم وشراستهم وشجاعتهم". دار في ذهني أنّهم كما سرقوا الأرض والطعام واللغة وروح البلاد، سرقوا التشبيهات؛ إذ أصبح شباب المستعمرات يتشبّهون بعضلات شباب لد - العوادين. وقد تأكّدتُ من ذلك حين قرأت مذكرات مستعمِر من مستعمرة ليست بعيدة عن لد - العوادين وتل الشمّام - أقيمت على أرض أبو شوشة – يكتب فيها: "ذات فجر، وجد حارس المستعمرة عند بوّابتها، ثلاثةَ أطفال. كانت كبراهنّ ابنة 12 سنة. طردهم الحارس ظنّا منه أنّهم عرب، إلّا أنّ الطفلة تكلّمت بالعبرية. اقترب الحارس وسألها: من أنتم؟ قالت: اسمي راحيل، ونحن من مستعمرة زخرون يعقوب (زمارين). كان الأطفال أبناء مدير سجن عتليت". كان ذلك سنة 1939، إبّان الثورة الفلسطينية ضدّ الانتداب البريطاني، حين هجم الثوّار بقيادة أبي درّة، وحرّروا الأسرى من سجن عتليت. يومها هرب مدير السجن وزوجته وأولاده، ، فلحق بهم الثوّار، وأخذوا مدير السجن وزوجته إلى مكان بعيد، وأرسلوا الأولاد الثلاثة إلى لد – العوادين، حيث عوملوا بأحسن حال. ثمّ وضعوهم ذات فجر، عند باب المستعمرة (مستعمرة صاحب المذكّرات) سالمين".
روت لنا راحيل كلّ الحكاية بالعربيّة التي تجيدها بطلاقة. أخبرتنا أنّ والدها ووالدتها قُتلا على أيدي "العصابات"، أي الثوّار بلغة المستعمِر. في قراءاتي، عقد الثوار محاكمة ميدانيّة لمدير السجن وزوجته حكمت عليهما بالإعدام. أمّا راحيل، فوجدت مصدرًا صهيونيّا وحيدًا يشير إلى أنّ راحيل ذهبت في مهمّة إلى اليمن بعد الـ 48، كونها تتكلّم العربية بطلاقة.
في مسيري في القطاع الشرقي للمرج، مررت بمستعمرة شكلها غريب؛ اسمها يوحي بأنّ سكّانها من يهود الدول العربية. رأيت ثلاثة أشخاص، فتقدمت نحوهم سائلًا إن كانوا من مالكي الحقول الزراعية. أجابني أحدهم: "لا، لقد أحضرونا من اليمن سنة 1950، لنعمل لدى اليهود الشرق أوروبيين، بكلام آخر أحضرونا عبيدًا لهم". سألني من أين أنا، وحين عرف أنّي من الناصرة قال: إذًا أنت جاري؛ ابنتي متزوّجة من شخص من الناصرة".
أبناء مرج ابن عامر
صاحب كتاب المذكرات أعلاه شدّد على أن القرى المحيطة بمستعمرتهم قرى تركمانية أحضرها سكانها الأتراك من تركيا، مثل قرية أبو شوشة وأبو زريق والنغنغية والمنسي والغبيات ولد - العوادين. لم أكن أعرف موقعها أو أي شيء يخصّها. هاتفت الصحفي/ الناقد السينمائيّ لأخبره عن تجوالي في فلسطين، وعن أنّني الآن "أحرث" على قدمي قرى التركمان في المرج. سألته من أيّ قرية هو، فقال "ابو زريق.
- لعلك تحدّثني قليلا عن حالكم وتاريخكم في فلسطين.
قال: من كان يعرف الحال والتاريخ هو والدي، وقد توفّي. أنا شخصيًّا لا أعرف شيئا، لكنّ الدكتورة علياء الخطيب ألّفت كتابًا تحت عنوان "عرب التركمان: أبناء مرج ابن عامر". أما أنا فما زلت أبحث عن الكتاب.
مشيتُ حتّى أبو زريق، كان الصباح ضبابيّا يذكِّر بأفلام اليوناني أنجيلوبولوس. التقطت صورًا لعين الماء والمقابر، وأرسلتها إليه في عمان.
أقطف الهليون بكثرة... أقضمه خلال مشيي في الغابة. أتمعّن في أشجار الزيتون واللوز، أحاول أن أبني ملامح أهل البلد. الأعشاب تغطّي كلّ شيء، والغابة كثيفة. أتذكّر قصّة من تأليف كاتب صهيونيّ، عن حارس الغابات الذي يكتشف أنّ الغابة التي يحرسها تخفي قريةً وقّع الصهيوني على دمارها، بأحرف الجريمة والقتل. فجأةً أجد أنقاض بيوت القرية: ها هي حجارتها، ومصطبتها و"بيرها".
أمشي إلى أبو شوشة. أجلس على سقف بيت مدمّر قبالة المستعمرة، واسترجع من كتاب مذكرات من كتب عن راحيل وهو أوّل مستعمر في هذه المستعمرة، كيف أنّه بعد أن جاء وزمرته لاستعمار هذا المكان، ذهبوا لزيارة "جيرانهم" أهل أبو زريق ليتعلموا كيف يتعاملون مع الأرض والزراعة والماء والحياة. يقول وصلنا القرية، وحللنا ضيوفًا على مختارها. وقبل أن نجلس، قال إنّ زوجته تريد مقابلتنا. كان ذلك غير متوقّعًا، فهذا "على غير عادات العرب، فهم يخفون نساءهم عن أعين الرجال"! دخلنا غرفتها، فحيّتْنا بالإيديشيّة (لغة يهود شرق أوروبا). لم تكن تتكلّم العبرية. قالت: "أنا يهودية من الرعيل الأوّل للمهاجرين الذين استوطنوا في هذه البلاد. التقيت بزوجي (المختار). عشقته وعشقني وتزوّجنا..."
مستعمر آخر من هذه المستعمرة، وصف أبو زريق بأنّها قرية عدائية جدّا لـ"اليهود". وكان المحرّض الرئيس ضدّ "اليهود" أستاذُ مدرسة، والأنكى أنّ أمّه يهودية (الصهيوني يقول عن نفسه يهودي).
لد - العوادين
حقيبتي على ظهري، رائحة المطر والأعشاب عطرة. الفضاء واسع لا نهاية له. حوّلت الأمطار أرض المرج المستوية وحلًا تغوص فيه القدمان، فيصعب المشي. أكتشف في مسيري قرية مدمّرة لم أكن أعرف اسمها، أو أدرك وجودها قبلًا. في الخارطة الرقمية، وتحديدًا في الدائرة التي كتبها الصهاينة عن لد – العوادين، أشاروا إلى أنّ أهل القرية هم من التركمان الذين وصلوا في القرن الثاني عشر(!!)، وأنّ القرية كانت "مأوى للعصابات"، وأنّه في ليلة 1939/9/3 أغارت "فرقة الليل الخاصة" بقيادة وينجيت، ترافقه فرق الميادين وأعضاؤها المسلّحون من المستعمرين الصهاينة، على لد – العوادين، فقتلت 14 وجرحت 15، "ورجعت قواتنا إلى قواعدها بسلام". أواصل المشي، أصل إلى تلّة كلّها من حطام بيوت القرية. شرق التلّة، وعلى بعد عشرات الأمتار، كرم لوز. أتّجه نحوه، وأقف في ظلّ شجرة لوز. أبحث في اليوتيوب عن لد - العوادين. أحد الأحفاد المهجّرين يصوّر زيارة له إلى لد – العوادين، فيقول: "أمّا هنا، فكانت المقبرة... زرعها المستعمِرون باللوز". ألتفت حولي، أنا أقف فوق المقبرة تحت ظلّ شجرة اللوز! أبتعد مسرعًا باتّجاه ظلّ ثلاث شجرات كينا، أفتح حقيبتي وأشعل النار. أحضّر زادي وقهوتي، وأنظر إلى جانب الوادي. أرى يافطة، بالطبع لم أذهب لقراءتها، فلن تكون إلّا خرافات وأساطير إنجيلية صهيونية. أحزم حقيبتي وأمشي أكثر من ساعتين، إنه المساء... أتساءل: من هو وينجيت هذا؟ وما هي "فرقة الليل الخاصة"؟
"المساعد" والصديق
أبحث عن تشارلز وينجيت: عسكري، يتكلّم العربية، بروتستانتي إنجيلي متعصّب. وُلد في الهند لعائلة عسكرية بريطانية. جاهر بصهيونيته، وجال على السياسيين البريطانيين لإقناعهم بإقامة "دولة إسرائيل"، لأنّ في ذلك مصلحة بريطانية عليا. قال عنه عسكر الصهاينة: "كلّ ما نعرفه هو من علّمنا إيّاه". خدم في فلسطين ما بين 1936-1939، وكانت مهمّته القضاء على ثورة الـ36 التي كانت معركة التحرير من الاستعمار. لهذا الغرض، أقيمت وحدة بقيادة بريطانية كان هو على رأسها أمّا المجنّدون، فكانوا مساعدين (auxiliaries)* من العصابات الصهيونية، أُطلق عليهم اسم "فرق الليل الخاصة"، واعتمد تكتيكها على استخبارات عالية وصحيحة، وعلى مهاجمة الثوّار في عقر دارهم ليلًا، والعقوبات الجماعية لكل من يُعتقد أنّ له صلة بالثوّار. مَوّلت الوكالة الصهيونية معظم مصاريف هذه الفرقة ومعدّاتها، بالاشتراك مع شركة نفط العراق (الشركة البريطانية الاستعمارية صاحبة خطّ بترول كركوك/العراق - حيفا). أقام وينجيت في مستعمرة صهيونيّة بالقرب من عين جالوت مجاهرًا بعنصريّته واحتقاره للعرب وكان سفّاحًا، لا يردعه شيء عن ارتكاب أفظع الجرائم، مجبولًا من طين الشرّ. وكان لقبه عند الصهاينة "الصديق".
خط بترول كركوك العراق - حيفا
بدأ العمل ببناء الخطّ من الجانب الفلسطيني سنة 1932، وتمّ استلام النفط في ميناء حيفا سنة 1935.
كان خطّ النفط يمرّ من الضفّة الغربية للشريعة (نهر الأردن) إلى طمرة المرج، قاطعًا المرج، بشقّه الشمالي، شرقًا حتّى حيفا غربًا. امتلكته شركة بترول العراق، وهي شراكة عراقية بريطانية. كان البترول الذي يُضخ في ميناء حيفا من العراق يواصل طريقه إلى أوروبا بالبواخر.
مع مدّ الخطّ، أصبح المرج رقعة استراتيجية بالنسبة إلى البريطانيين؛ فبالإضافة إلى مرور سكّة حديد الحجاز فيه، والتي كان الهدف تطويرها حتّى تصل حيفا بشاطىء العرب ومن هناك إلى الهند، بات فيه أيضًا خطّ نفط. وعليه، وجب أن يُحمى المرج، فانتشر الصهاينة ومستعمراتهم على طول خطّ النفط وسكة الحديد، بمباركة "البريطان" وتحفيزهم.
حين انطلقت ثورة الـ36، ثورةً للتحرير، كان ضرب خطّ النفط وسكّة الحديد هدفًا رئيسيًا لدى الثوار، فحفروا حتّى وصلوا الأنبوب، وثقبوه مشعلين النار التي تصاعدت أعمدتها في كلّ أنحاء المرج. من هنا، كانت مهمّة "فرقة الليل الخاصة" القضاء على الثوّار، وإنقاذ أنبوب النفط من خطرهم.
نيسان ريلوف مستعمر صهيوني تائب
ولد نيسان ريلوف في "نهلال"، ليس بعيدا عن لد - العوادين بالمرج. كان مساعدًا (Auxiliary)، عسكريًا في "فرقة الليل الخاصة". ترك فلسطين لأنّه لم يحتمل ما قام به من جرائم. توفي ودفن في باريس عن عمر يناهز الـ 88 سنة.
يروي صديق له عنه التالي: كان الثوّار الفلسطينيون يعطّلون أنبوب النفط، وحين يسيل يحرقونه، وتتصاعد أعمدة النيران ليراها كلّ من في المرج. كانت هذه العملية رمزًا للثورة وفشلًا للاستعمار. قرر وينجيت أن يضع حدًا لذلك، فاختار قرية قريبة من خطّ النفط، ودخلها ليلًا ووضع الساهرين في صفّ على شكل حدوة، وصرخ بهم: من منكم آوى من أحرق خطّ النفط؟ صمت الجميع، فصرخ على فلاح أن يتقدّم نحوه، وقال بذات الصوت العالي: أسألك من منكم آوى من حرق النفط؟ وضربه بكعب البندقية. ساد الصمت، فكرّر السؤال وكرّر الضرب واستمرّ حتّى تهشمت جمجمة الفلاح وخرّ قتيلًا. ثمّ أمر المساعدين الصهاينة بأن يبلّوا قطع قماش بالبترول، ويلقوها تحت أقدام الفلّاحين. ثم غرس رؤوس الفلاحين بهذه القطع صارخًا: هكذا يلقن القطّ حتّى لا يعمل حاجاته داخل البيت... حتّى لا يقترب من خطّ النفط."
مجزرة... الاستنتاج الحائر
كلّما تقدمت بالكتابة تطاردني اليافطة التي رأيتها في لد – العوادين. كانت لافتة أكبر من المعتاد، ولونها بنيّ وليس أزرق ككلّ اليافطات. حين نخرج أنا وسلطان (كلب العائلة) لنمشي مبكّرين، قاصدين لد - العوادين، هناك أجدها! أبدأ القراءة فابتسم: اليافطة تذكر تاريخ المنطقة، لا ذكر فيها لبلدة توراتية مزعومة، إنّما لآثار تعود إلى بلدة بيزنطية. أستمتع بالشرح المطوّل حتّى أصل إلى الفقرة الأخيرة: في بداية القرن العشرين سكنت هنا عشيرة العوّادين (لا يُذكر أنّهم تركمان). في 1939/9/3 باغتت "فرقة الليل الخاصة" بقيادة وينجيت "المشاغبين" وقتلتهم جميعًا وهم نائمون. كان عددهم 29". تختفي ابتسامتي، ويحلّ محلّها غضب عارم. اليافطة أعدّتها وزارة السياحة الإسرائيلية. وعلى الدائرة في الخارطة الرقمية في موقع لد - العوادين، يُذكر أنّ المساعدين الصهاينة المشاركين بارتكاب المجزرة، كانوا من المستعمرات المحاذية للد - العوادين.
إلى الشمال الغربي مستعمرة "كفار باروخ" ،تطفو في ذاكرتي مذكّرات السيّدة من تلّ الشمام: "كنا نُرهِب جيراننا العرب بالقول إن هاجمتمونا نشكوكم إلى شباب لد – العوادين، وكنّا نقصد شباب كفار باروخ". شباب كفار باروخ المساعدون هم الذين شاركوا بهذه المجزرة، وأنا حسبت أنّهم سرقوا الأرض بشجاعة شبابنا وجرأتهم… لن يصدق أحدٌ هذا الاستنتاج حتّى أجد الوثيقة التي تثبت قطعًا أنّهم كانوا مرتكبي المجزرة. وأنا على يقين من أنّ هذه الوثيقة ترقد في مكان ما في فلسطين.
أجلس وبجانبي سلطان يلهث. أنظر في اليوتيوب بحثًا عن لد - العوادين، فيظهر لي تسجيل مرئيّ أعدّته مؤسّسة فلسطينية تجمع التاريخ الشفهي (يسميه أهل العلم والمعرفة "الذاكرة"). يجلس رجلان من لد – العوادين، يعيشان في الأردن، يتحدّثان إلى الكاميرا، يسمّيان البلدات العربية التي كانت تحيط بقريتهم. يأتيان على ذكر مستعمرة كفار باروخ. يسألهم المعدّ: "كيف كانت علاقتكم مع مستعمرة كفار باروخ"؟ سكت أحدهم، نظر الثاني إليه ثمّ إلى الكاميرا وقال: "والله كانت جيّدة، منيحة، بصراحة كانت منيحة"!
____________
* القوات المساعدة (Auxiliary forces)، أو التابعة أو الرديفة، هي تشكيلات عسكرية غالباً ما تشكّلها الجيوش النظامية من أبناء البلدان أو المناطق التي تسيطر عليها هذه الجيوش.
الصورة: على أنقاض لد - العوّادين أتفحص عتبة وما تبقى من بيت هدمَه المستعمِر
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة