منذ حوالي الشهر، طلب مني حرمون القائم مع مجموعة على مجلة "رحلة" الكتابة في مجلتهم حول فلسطين، فانطلق في بداية الحديث من اقتراح كتابة نصوص تشبه "البوست كارد" أو بطاقات بريدية تتطرق إلى تاريخ "قرى فلسطينية قديمة"، بعد أن شاهد ما وثقتُه من تجربة التجوال في أرض فلسطين في فيلم "طريق سيدي". حين قرأت الرسالة علت ابتسامة عريضة على وجهي أعادتني إلى بداية هاجس السير على الأقدام في أنحاء فلسطين، الذي بدأته قبل حوالي الإحدى عشر سنة. فلم اصادف أبداً أن تجتمع أغرب ثلاث كلمات لها دلالات مأسوية على الوعي العربي والفلسطيني، على الرغم من أني كنت فرحتُ جداً بهذه الدعوة وشكرتُ طالبيها. 

والكلمات أو العبارات الثلاث التي أنا بصدد الكتابة عنها هنا فهي: "قرية قديمة" وسأستخدم عتيقه بدلاً من قديمة وسأشرح السبب في متن النص أدناه، وكلمة "حرمون" و عبارة "بوست كارد".

"بوست كارد"...

نموذج البوست كارد الوحيد هو ما صدر عن المستعمِر باللغة الإنكليزية تحت عنوان "هذه إسرائيل" (This is Israel). وأشهر تلك البطاقات هي تلك التي تحمل نصف رغيف فلافل وعليه علم المستعمرة، وأخَرى لأبواب بيوت فلسطينية تم الاستيلاء عليها بعد التطهير العرقي لأهلها، أو شجرة ياسمين زرعها يوسف بحيفا وأخرى تجمع كاهناً وشيخاً وحاخاماً على ليشكّلوا رمزاً لوئام ومحبة من اختراع المستعمِر. وأخيراً وليس آخراً بوست كارد لمجنّدة صهيونية  تحمل سلاح "عوزي" على كتفها ويتدلى على صدرها.

… القرية العتيقة…

أما القرية العتيقة (القديمة) في فلسطين بعد الاستعمار الصهيوني للبلد، فلا وجود لها. فقد توقّف الزمن وتغيّر مذذاك معاني الكلمات والمصطلحات. ولا يوجد في وعي وإدراك الوطني (بالمعنى الحَرفي للكلمة أي إبن البلد) "قرية عتيقه" لأنها إمّا مهجّرة و/أو مدمّرة أو مأهولة. أما عبارة "عتيقة" فهي جزء من ايديولوجيا وبروباغاندا الصهيوني الذي يطلق على  القرية المدمّرة اسم بلدة توراتية أو بيزنطية قديمة سكنها عرب في فترة ما. أما إذا كان الصهيوني ليبرالياً (ويدعونه ويا للعجب "يساري") فتكون القرية في قاموسه "خربة"، من خراب. ونحن لا نسمّي القرية خربة، فالـ"خربة" هي "العزبة" كما في بلاد الشام. ولن نخوض في شرح دورها الاجتماعي والاقتصادي الآن.

ويشير الصهاينة بكلمة "عتيقه" إلى كل ما يرتبط بفلسطين. ذلك أن مصطلح "عتيكوت"(عتيقة) باللغة العبرية الصهيونية  يُستخدم للدلالة على أي حيز مَدني أو قروي معماري فلسطيني أو أدوات وأغراض مصنوعة بأسلوب ونهج فلسطينيّين من بلاط وأثاث وفرش، وغير ذلك من أغراض "عتيقة". وهذه الدلالة تخفي "حياء" مرتكب الجريمة، الصامت عنها في الحرب الصهيونية المستمرة لمحو فلسطين كموطن لأبنائها وبناتها العرب. وما يُبكي ويُضحك في آن، أن غالبية مستخدمي تلك العبارة هم من الفلسطينيين في أصولهم، ومن عرب إسرائيل في وَعيهم وحياتهم وانتمائهم. فهؤلاء يتفننون في استخدام "عتيقة"، فينعتوا بها أي بيت ولو كان "حديثاً" بمواده ووظائفه وشكله، وكل ما فيه "فلسطيني / شامي" الطراز ويتضمن قنطرة. فيقولون إن صاحب البيت يُحب "العتيكوت". وبهذا التعبير، يتبرأون من مسؤوليتهم السياسية ويعزفون عن الانخراط في النضال والوعي الفلسطيني. هؤلاء "حداثيون" يأكلون الدجاج "المثلج" والقشطة المصنّعة في مستعمرات إسرائيل ويغسلون رؤوسهم بشامبو شركات صهيونية، ويحتقرون صابونة زيت الزيتون النابلسية.

أما المأساة أو الجريمة - المأساة فتتمثّل بأن مجموعة من البنّائين (العرب الاسرائيليين) بادروا إلى هدم بيوت فلسطين وأخذ حِجارتها وبيعها لأثرياء صهاينة يبنون بها بيوتهم. وتلك الحجارة المأخوذة، والمسروقة بغالبيتها، من قرى دمّرها الصهاينة وهجّروا أهلها فيُسمّونها "حجارة خربة". والبيت المبني من هذه الحجارة يسمّى بيت بأناقة "الخربة"، وهو من الاغلى ثمناً والأجمل في نظر هؤلاء. أمّا "الحرامي" فهو المتعهد العربي الإسرائيلي. والخوجنجي (من خواجا) أي العربي الإسرائيلي المبهور بسيّده المستعمِر، فيعمل كل ما في وسعه لتقليده فيبني بيته أيضاً من "حجارة الخربة".

… حرمون

صناعة التعابير والكلمات أنتجها الصهيوني لطَمس ومحو أي ذِكر بأن الوطن التي أقام عليها المستعمِر مستعمَرة إسرائيل هو في الحقيقة فلسطين، وإقناعنا بأن الأرض اسمها "أرض إسرائيل". تلك الأرض التي، في عُرفه، تنبذ كل من عاش عليها، وتنتظر الصهيوني (أو اليهودي كما يسمّي نفسه؛ وبين هاتين التسميتين غاب العربي وحضر "المسيحي - الإنجيلي - الصهيوني)، تنتظر الصهيوني ليعود ويحقق "الخَلاص" والبعث. ولأن صناعة التعابير لا تكفي وحدها لتحقيق هذا الهدف، سلك الصهيوني طريق الإنجيليين الصهاينة الذين اخترعوا الفكر الصهيوني، وأعلنوا أن كل الأسماء الحقيقية للأماكن والمعالم في فلسطين العربي منها أو الكنعاني أو ما اشتُقّ منهما، إنما هو تحريف للأسماء العبرية. فعلى سبيل المثال، يدّعون أن كلمة المغار المأخوذة من كلمة مغارة هو تحريف لكلمة "ماعاروت" العبرية ومعناها المُغر أو الكهوف. وعندما تفشل هكذا فذلكة أكاديمية سياسية في تثبيت القصد، يقولون مثلاً إن الاسم التاناخي التلمودي هو كذا، كما في تبريرهم لاسم جبل الشيخ، فيقولون أن أسم جبل الشيخ التوراتي هو حرمون، اسم صديقنا الذي دعاني للكتابة هنا.

إذاً، أن أمشي في فلسطين لأعيش فلسطين لأُعيد فلسطين إلى الوعي البشري. لأعيدها إلى التاريخ لكي تتحرر وأتحرر معها. هذا هو هاجسي الشخصي وولعي بهذا المضمار. فإلى اللقاء في فلسطين!


* نزار حسن: مخرج من فلسطين، من مواليد الناصرة عام 1960، أنتج وأخرج أفلاماً تسجيليّة ركّزت في مواضيعها على الإستعمار الصهيوني ومحو الوعي، منها ياسمين (1996) وأسطورة (1998)، ليال بلا نوم (2012)، "طريق سيدي" (2020).

يساهم حسن في رحلة عبر نصوص هدفها تحرير تاريخ فلسطين من محاولات الطمس المستمرة، وإعادتها إلى الوعي البشري.


كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة

لمزيد من التفاصيل أنقر هنا
Patreon support button