"... وصلنا إلى منطقة القصور على جبل الكرمل… حيث يسكن بعض المسلمين البشوشين… أمامكم صديقي رشيد بيك… رجل جميل… يرتدي الزيّ الأوروبي… يحييه دافيد باللغة التركية فيردّ عليه رشيد بيك التحية بلهجة أهل شمال ألمانيا… أكمل رشيد بيك تعليمه في ألمانيا… أدرك والديه الفائدة التي ستفضي إليها الهجرة اليهودية فكان شريكاً في انتعاشها يدر أرباحاً كثيرة من جرائها… وللعلم، فإن رشيد بيك عضو في جمعيتنا"
- هرتسل ثيودور - الأرض القديمة الجديدة - إصدار 1902.
خلال مرحلة البحث تحضيرًا لأحد افلامي، اتصلتُ بأستاذة باحثة في ما تُطلق عليه الأكاديمية الصهيونية دراسات "أرض إسرائيل"، وكنت في حاجة إلى معلومات عن أهل البلد الذين باعوا أراضيهم للحركة الصهيونية. جئت لزيارتها في بيتها، جلس زوجها أمام التلفزيون عابساً غير مرحب بزيارتي. فأنهت اللقاء بسرعة بعد أن وعدتني بإعداد قائمة بأسماء الأشخاص الذين باعوا الأراضي التي أقيمت عليها المواقع التي أثارت اهتمامي. اتفقنا على أن أستلم القائمة أثناء التصوير بعد أن ذكرت لي بعض أسماء الذين باعوا الأراضي للحركة الصهيونية وقالت أن من بينهم حفيد الأمير عبد القادر الجزائري، من دون أن تذكر إسمه.
أثناء التصوير رفضت الأستاذة التعاون معي، فذكرتُ في المشاهد الأولى للفيلم أن الأراضي التي نمشي عليها باعها حفيد الأمير عبد القادر الجزائري (من دون ذكر إسمه) وأن المنطقة تسمى "بلاد الأمير" أو "بلاد المغاربة".
رافائيل نادال وهوس التنس
سمير مصري (خال زوجتي) وأنا مهووسان بلعبة التنس ومن مشجعي رافائيل نادال المتعصّبين ونعتبر خسارته مأساة وفوزه انتصاراً شخصياً لنا. وهكذا بقينا على صلة يجمعنا عشقنا الأعمى للعبة التنس ونادال وشاهدنا سوياً اللعبة الاسطورية التي فاز بها نادال على فيدرر في ويمبلدون سنة 2008.
ودعوته لحضور افتتاح الفيلم إياه. وبعد بضعة شهور من حضوره عرض الفيلم، أرسل لي رابطاً لمقال بالعبرية كتبها صهيوني من "مجلس تطوير الإرث الإسرائيلي". كان المقال عن عبد الرازق سعيد عبد القادر الجزائري أحد أحفاد الأمير عبد القادر، إنه الحفيد الذي كنت ابحث عن اسمه. يكتب الصهيوني أن عبد الرازق كان أيضا جاسوساً للموساد. (عرفت لاحقاً أن رئيس الحكومة السابق يتسحاق شامير كان المسؤول عن تجسسه، وأنه كان عضواً في حركة تحرير الجزائر حين كان جاسوساً). ويضيف كاتب المقال أيضا أنه اشترك مع عصابة ليحي وهي عصابة إرهابية صهيونية في تفجيرات في لندن ضد الإنكليز. وُلِدَ عبد الرازق سعيد سنة 1910 وأنهى حياته ميتاً سنة 1998 وحيداً في كشك متواضع، فقيراً مُعدماً، على ضفة بحيرة طبريا في مستعمرة المجدل. كان شيوعياً إشتراكياً مغرماً بالحركة الصهيونية ومؤيداً لها وقد باع أراضٍ كثيرة في "بلاد الأمير" وقرى السجرة (الشجرة) ومسحة وسمخ للصهاينة. وحاول الإنضمام إلى كيبوتس مستعمرة "اشتراكية " لكن طلبه رُفض "لأنه مسلم"... ثم دُفِنَ فيها بعد أن وافته المنيّة. كان ذلك سنة 1932.
بلاد الأمير / بلاد الشفه/ بلاد المغاربة
بعد سنتين ونصف السنة على استلامي ذلك المقال من سمير خال زوجتي، حزمت حقيبتي وبدأت المشي من بيتي في "المشهد"، بضواحي الناصرة، حتى قبر حفيد الأمير في الكيبوتس والتي أطلق عليها المستعمِر بدايةً إسم "توتشكا"، وهي كلمة روسية معناها النقطة، وسُمّيَت لاحقاً "افيكيم" نظراً لوجودها بين اليرموك والشريعة (نهر الأردن). وحتى أبلغ قبره كان عليّ المشي في "بلاد الأمير" أو "بلاد المغاربة"، وهي أرض سكنها وزرعها أتباع جدّه من الجزائريين الذي لحقوا به في منفاه بدمشق، وكان عبد الرازق والده يمتلك معظم أراضيها وقراها.
أترك بيتي عند الخامسة صباحاً، أتحسّس طريقي إلى جبل سيخ، أمشي بمحاذاة الشارع العام في طريق زراعية تغطّيها أحراش زرعها المستعمِر، شمالاً وعلى التلة المقابلة كفركنا، أنظر بأسفل الحرش فأرى تلال من الأوساخ، وأكواخ مبنية من مواد بلاستيكية وخرق وفضلات الخشب من ذلك المستعمَل لبناء البيوت، ينام بها أهل الضفة الغربية من جنين ونابلس ونواحيها، وهم عمّال احتُلّت مناطقهم سنة 1967، يبحثون عن عمل لا توفره لهم السلطة الفلسطينية.
أمضي شرقاً، أصل قرية عين ماهل المقابلة لكفركنا فأدخل الطريق الزراعي المؤدي إلى الصبيح التي عرفَت مقاومةً شرسة ضد الصهيوني وألحقت به خسائر جمّة، لكنها سقطت ودمّرها المحتلّون عن بكرة أبيها ولم يبقَ منها إلا مقبرتها مهمَلةً حزينة. أعبر الشّارع المقابل لخان التّجار، وكان من أهم الأسواق في النصف الأول وحتى بداية النصف الثاني للقرن التاسع عشر. قدم إليه تجّار بلاد الشام قاطبة وتجّار مصر أيضاً، فيه من كل طيب، عقد كل يوم خميس من كل أسبوع من صلاة الفجر حتى صلاة العشاء. المعلَم التاريخي مهمل حيث يصعب الدخول إليه فلا أحد يعتني به. أمشي بمحاذاته وأكمل شرقاً. في الأفق "بلاد الأمير/بلاد المغاربة": عولم وشعاره وليس بعيداً عنهما المعذِر، أما كفرسبت فشمالاً وكي أصلها عليّ المرور بكفركما.
"هجرة الجزائريين إلى أرض إسرائيل"
لا أجد أية معلومة عن عبد الرازق عبد القادر الجزائري باللغة العربية، إلا شيئاً عرضياً في كتاب الأستاذ سهيل خالدي الفلسطيني من أصول جزائرية، "الإشعاع المغربي في المشرق: دور الجالية الجزائرية في بلاد الشام ". يذكر خالدي أن حفيد الأمير جال على اللاجئين الفلسطينيين من أصول جزائرية أو المغاربة الفلسطينيين، مدّعيًا أن السّفارة الفرنسية أرسلته لإقناعهم بالتوطّن في لبنان بعد تهجيرهم من فلسطين، مقابل مردود مادي معيّن. استغربتُ كثيراً أن السّفارة الفرنسية بعثت به لأن ما أعرفه هو أن الموساد أمر رجاله من الفلسطينيين العرب، وأهمهم محامي من الناصرة نصّبوه قاضياً، بحض اللاجئين في دول الجوار على التوطّن في ليبيا، وإقناع بعض العرب داخل فلسطين بتوطّنهم في الأرجنتين. فإذا كان حفيد الأمير عميل موساد فهل هي عملية مشتركة للمخابرات الصهيونية الخارجية بمساعدة السلطات الفرنسية؟ أم أن الجاسوس أراد التمويه؟
كتاب الأستاذ سهيل الخالدي ربما هو المرجع الأهم لتاريخ الجزائريين في بلاد الشام: فلسطين، لبنان وسوريا. هؤلاء هم أتباع الأمير عبد القادر الجزائري. في فلسطين استوطنوا قضاء طبريا في قرى كفرسبت ومعذر وشعاره وعولم، وهذه أكبرها، وكذلك في نواحي شفاعمرو في الهوشه (الكساير) وفي عكا وصفد ونواحي صفد في قرى الحسينية والتليل ودشوم وعمقا وماروس.
وجدتُ أيضًا محاضرة باللغة الانكليزية لأستاذ جامعي تحت عنوان المغاربة (الجزائريون) في بيروت، لكني لم استطع الحصول على نسخة رغم محاولاتي. هناك مصدر آخر باللغة العربية حول المغاربة في بلاد الشام على موقع الميادين استفدت منه كثيرًا وأعجبت به، فهو خالِ من الابتذال الإيديولوجي والسياسي العاطفي. أما بالعبرية فصادفت مقالين أحدهما كتبه أستاذ تاريخ عربي في معاهد أكاديمية إسرائيلية عن "هجرة الجزائريين إلى أرض إسرائيل" وهو مقال كُتبَ بالإنكليزية وتم تعديله وتحديثه حيث ورد إسم "فلسطين" بالإنكليزية. أما بالعبرية، فسقطت "فلسطين" لتحلّ مكانها "أرض اسرائيل". أما "بلاد الشام" فمسحت تماماً. المقال الآخر كتبته صهيونية، تقتبس عن المؤرخ العربي وتعتمد على مقالته كاملة. أما الكاتب الألماني الهيكلي شوماخر (من مواليد حيفا وله أعمال جمّة عن فلسطين وفيها. وكان مهندساً اهتم بتاريخ وتوثيق فلسطين - الإنجيلية الصهيونية - وعلم الآثار التوراتي الإنجيلي)، فقد ذكرَ في مسحِهِ لقضاء صفد أن المغاربة سكنوا في الزبيد وهي اليوم مستعمرة "يسود همعلاه" المحاذية لقرى المغاربة التليل والحسينية في نواحي صفد.
خلاصة كل هذه الكتابات أن جزائريين من أتباع الأمير عبد القادر الجزائري لحقوا به في هجرات متباعدة واستقروا في بلاد الشام بعد منفاه الطوعي هناك ونحن أهل الشام اطلقنا عليهم إسم المغاربة.
ماء سبيل:
أتوجّه شرقاً إلى أرض كفركما التي كانت حتى حوالي سنة 1870 في حوزة جدّي الكبير الحاج خليل ووالده ابراهيم الحسن، والتي لأسباب أجهلها حتى اليوم صادرتها أو أخذتها الحكومة العثمانية ووطّنت فيها مسلمين من القفقاز نسميهم الشراكسة، بسبب المجازر التي ارتكبتها بحقهم الامبراطورية الروسية واضطهادها المستمر لهم. أو لعلّ السبب كان لحماية أطراف الحدود العثمانية من غزوات القبائل الرُحَّل.
في حقول كفركما، رآني من بعيد مزارع "شركسي" يبدو ملتزماً دينياً، عرض عليّ ماء السبيل، تكلّم بالعبرية، أجبته بالعربية فتوخى الحذر، وكنت متعوداً على هذا السلوك من أهل البلد الذين يوماً ما كانوا فلسطينيين وعرب والآن أصبح جزءٌ لا يستهان به منهم إما عرب إسرائيل أو دروز أو شركس، فتداركتُ الأمر وعرّفته عن نفسي ومسقط رأسي. اطمأنَّ الرجل وسألني عن وجهتي، فأخبرته بإسهاب فسألني من يكون عبد القادر الجزائري..
قلت يعزى إليه أنه مؤسس الجزائر الحديثة، حارب الاستعمار الفرنسي، وألقيَ القبضُ عليه سنة 1847. ثم قيد إلى فرنسا حيث سُجِنَ هناك وأطلق سراحه سنة 1852. عرض عليه نابليون الثالث أن يتّخذ من فرنسا وطناً ثانياً له فرفض، وعاش على معاش اقتطعته له الحكومة الفرنسية. ثم غادر فرنسا إلى اسطنبول سنة 1855، ربما بوساطة وكفالة عثمانية، فحطَّ مع أتباعه في الشام (دمشق) سنة 1856 فاصبحت دمشق بيته ولمع اسمه هناك كرجل علم وأدب وقيادة. اقتطعت الإمبراطورية العثمانية له ولأتباعه أراضٍ في بلاد الشام (ما يسمّى اليوم: لبنان، وسوريا وفلسطين) منها القرى المجاورة لكم، مثل كفرسبت وعولم ومعذر وشعاره. ثم قاطعَني قائلاً: شعاره هناك (أشار إلى الشرق)، ستصل إلى ملعب كرة قدم وعليك اجتياز الشارع العام، عندها… ستجدها… ليست بعيدة من هنا. وسألني بعدها إن سكنَ الأمير في هذه الديار فقلت لا، لكن جدّي روى لنا أنه ذات مرة جاء إلى هنا لينضمّ إلى عقد راية صلح لفضّ نزاع بين أهالي سيرين وأتباعه أهالي عولم. تابعت وقلتُ له: ولكن المفارقة هي أن الأمير تحوّل من عدو لفرنسا ليصبح صديقها، فلقد منحه نابليون الثالث أسمى وسام فرنسي أي وسام الصليب، ولم تعطه لأحد من قبله لأنه حمى المسيحيين في حادثة "باب توما" في الحرب والمجازر الطاحنة التي دارت بين الدروز والمسيحيين سنة 1860، فمنحه الفرنسيون لقب "حامي المسيحيين".
بين الدوالي وكروم العنب
أصل إلى ملعب كرة القدم، أعبر الشارع العام، أمشي بمحاذاته جنوباً، في طريق ترابية. يعترضني سياج شائك يحيط بكروم عنب بوابته موصودة. أعالج أمر نفاذي من بين الأسلاك الشائكة وأدخل، أجد نفسي بين الدوالي. كروم كثيرة وكثيفة، وشعاره في وسطها فوق تلة محاطة بالأشواك والأسلاك الشائكة، أنظر حولي. ورق الدوالي يانع. أضع حقيبتي جانباً، أخرج كيساً منها وأشرع في القطاف.
بالنسبة لي شعاره هي مكان أقام فيه عقيلة آغا، ومن قراءتي عنه وبالأخص لدى ألكسندر شولش، كوَّنتُ عنه فكرة أنه "أزعر" و"الإبن المدلل" للإستعمار. هكذا أيضاً سمعت عنه من أهل الناصرة. سجنهُ العثمانيون في بلغاريا، إلا أن راهباً ساعده على الهروب فعاد إلى ديارنا. أراد أن يكون شيخ شعاره فحاول اللعب على مصالح متضاربة بين الإمبراطورية العثمانية والدول الاستعمارية التي، وبحسب الكسندر شولتش في كتابه "تحولات جذرية في فلسطين"، كانت تتمنّى أن يمتد القتال والمجازر الطائفية بين عرب فلسطين، مثلما حدث بواقعة "باب توما"، وهذا ما لم يحصل ابداً. إلا أن عقيلة آغا الذي استنسخ بصورة كاريكاتورية شخصية الشيخ ظاهر العمر، عرض على المسيحيين وعلى القوى الأوروبية الاستعمارية أن يكون حامي "المسيحيين" فقلّده نابليون الثالث وسام "جوقة الشرف" على متن سفينة رست في ميناء حيفا سنة 1860 بنفس السنة التي قلّد بها نابليون نفسه الأمير عبد القادر الجزائري الوسام الأعظم وسام الصليب.
إلا أن دهشتي جاءت حين علمت أن أحد فروع عائلتي - حسن - من المشهد كان على علاقة وطيدة ومتينة مع "عقيلة الحسي" كما اطلقوا عليه بدل "عقيله آغا"، وهم ما زالوا يحتفظون بسيفه وبعض حوائجه إلى يومنا هذا.
فضيحة الأهل وفضيحة المستعمر
يمتلئ الكيس من ورق الدوالي فأضعه في حقيبتي. أقف في وسط الكروم ملاصقاً للتلة التي كانت بيوت شعاره قائمة عليها، أنظر يميناً ثم شمالاً أتفحّص طريقاً أسلكها لكي أصل قبر حفيد الأمير أو الجاسوس أو الصهيوني الشيوعي الإشتراكي أو باختصار عبد الرازق الجزائري.
هل أسلك شمالاً ثم جنوباً وأنزل شرقاً، أعبر كفرسبت وأمضي إلى عين القرية "العين البعيدة" حيث كتب المستعمر على يافطة بجانبها "إسمها "العين البعيدة" - زارتها وذكرتها بعثة صندوق استكشاف فلسطين، سنة 1870". ومن هناك، أتوجّه إلى سهل الحمى ثم شرقاً إلى وادي الفجاس ثم العبيدية ثم مقبرة المستعمر؟ أم أصعد التل وأسير جنوباً فشرقاً إلى عين عولم المعلم الوحيد المتبقّي للقرية ثم اصعد إلى سرين بين حقول القمح الخضراء وأمرّ بالعين ومن ثم المنشأة المدمّرة بالقرية، وقد اعتقدت ولا زلت انها كنيسة سيرين، ثم أكمل طريقي بموازاة المستعمرة تحت قدمي سيرين وتلالها؟
أمضي مستقيماً، وعلى يميني الحدثة وعولم والمعذر، وفي أقصى اليسار الطيرة وكفرمصر، وفي الأفق جبل نابلس، جنين ومخيم اللاجئين. وعلى يساري سارونه حيث ولد جدي، وفوقها كفركما التي مررت بها للتو. وبعد بضع كيلومترات ساقترب من سيرين وبعدها دنه وفي الأفق كوكب الهوا وهي قرى سوّيَت بالأرض، شكّلت شاهدًا على فضيحة المستعمِر الذي دمَّرها وفضيحة أهلها الذين لم يستطيعوا الدفاع عنها.
يد العون
أمضي في الطريق الزراعي وعلى طرفيها أشجار زيتون وكروم عنب وحمضيات، أمشي وحدي… المشي في البراري وحيداً من أسمى تجاربي، لحظات سحرٍ تحدث فقط في هذه الحالة حين أكتشف ذاتي ووطني في آن معًا.
بصري يمتد إلى الجهات الأربع فيصبح وطني حقيقة، هناك، في منتصف الطريق الزراعية يتجلى الوطن بعظمته. الأردن شرقًا يفقد معناه وسوريا هناك في الزاوية الشرقية الشمالية تفقد معناها، أما فلسطين فتندثر في المكان حيث أقف، ما بين سيرين وعولم وكفرسبت وشعارة، يحل الوطن مكان كل هذه الأسماء وتبقى الأماكن التي أراها من مكاني والتي هي الوطن ولا زالت على مرّ التاريخ: جبل الشيخ والقنيطرة وصفد وإربد وقضاء بنت جبيل والناقورة وجبل المشقة وجنين وجبل نابلس وحيفا وبحرها. هنا يمتزج الشمال بالجنوب والغرب بالشرق.
أتحرك من مكاني، اقترب من حافة الجبل بمحاذاة طواحين الهواء التي أنشأها المستعمِر لاستخراج الكهرباء، أهبط جنوباً في طريق متعرّجة إلى الغور لأبحث عن مقبرة المستعمَرة، الشريعة - نهر الأردن، في قاع الغور وإلى غربها نهر اليرموك، تنعكس أشعة الشمس في مجراه، أرى امرأة ورجلًا أربعينيين من أبناء المستعمِرين، هو يزحف على مؤخرته ببطء أما هي فواقفة تمسك بيده تشجعه على التقدم ببطء. الرجل يرتجف خوفاً، تشجّعه المرأة بالعبريّة "تمهّل لن يحدث لك سوء". يحاول النهوض والمشي على قدميه لكنه يفشل، أقتربُ منهما، أعرض عليها المساعدة فآخذ بيده لأعاونه على النهوض، يتكىء بيده الثانية على كتفي، أضع قدمِي ملاصقة لقدمه وأطلب أن يخطو متزامناً أو ملاصقاً لقدمي، أوصله حتى الرقعة المستوية للتعرج، تشكرني المرأة وتسألني إن كنت مرشِدا للمشي في الوعور، "كلا" اجيبها، تسألني من أين أنا وماذا أعمل أقول من ضواحي الناصرة، أمشي في فلسطين وبالأخص أزور القرى والأماكن التي دمَّرها الصهاينة، اجيب وابتسم. تشعر ورجُلَها بالإحراج حين ينفض التراب عن مؤخرته. أبتسم وأمضي. أقترِب من قاع المنحدر، أمامي في الشرق هضبة الجولان شامخة، في القاع ثلاث مستعمرات يصعب عليّ تحديد أي واحدة منها دفن فيها حفيد الأمير. الخارطة الرقمية للمشّائين تأخذني في مسارات تبعدني عن هدفي في طريقٍ غير واضحة. أقرّر أن أصل إلى أقرب نقطة من أقرب مستعمرة، جدار من الأسلاك الشائكة بيني وبين الطريق، أبحث عن فتحة في الجدار، أبتعد عشرات الأمتار جنوباً وشمالاً، لا أجد أية فتحة، أعالج أمر السياج الشائك فأعبر حتى أصل ضفة اليرموك، لا جسر على النهر يساعدني في العبور إلى الضفة الشرقية لليرموك حيث المستعمَرة، أمشي شمالاً بمحاذاة مجرى النهر، وبعد بضع كيلومترات أبلغ ما تبقى من قرية العبيدية في مكان يتّسع به مجرى النهر ويستغلّه المستعمِرون للاستجمام وصيد الأسماك. أسير بضعة أمتار فأجد الجسر الذي يأخذني إلى المستعمَرة، أصلُ إلى تقاطع طرق يؤدي إلى مستعمَرة على يميني وأخرى على يساري، لا يافطة تشير إلى وِجهتي… أعود إلى الخارطة الرقمية فتشير إلى يساري، وعلى بعد ثلاث كيلومترات من هنا وسط المستعمَرة ولا إشارة للمقبرة. أرى بيوتًا، أتقدّم شرقاً ومرة أخرى سياج شائك يمنعني من دخول المستعمَرة. أعالج الأمر، حقول الموز مترامية على كل الأطراف، أصل بوابة موصدة، أزحف من تحتها فأدخل إلى حيّز المستعمَرة... ألتفت يساراً، أرى فتاتين، أيديهما متشابكة وعيون متناظرة بشوق وحنان. اتنحنح واسأل، بالعبرية، "عفواً على الازعاج أريد أن أتأكد هل أنا في أفيكيم"؟ (إسم المستعمرة).
"نعم أنت هنا" تجيبان... أين المقبرة من فضلكما؟ أسأل، "المقابر هناك داخل الحرش الذي تراه على بعد مئة متر من هنا".. أشكرُهما وأمضي باتجاه المقبرة.
طه محمد علي (شاعرًا) /الكراهية
أصل بوّابة المقبرة لأجد حشدًا من الناس.. أسأل إمرأة مسنّة: هل هنا قبر "دوف جولان"؟ "نعم، لقد دفنّا الآن آخر شخص كان يعرفه شخصيًا". تمضي تاركة المقبرة، أتوجّه إلى امرأة برفقة رجلين أسالهم عن موقع قبر "دوف جولان"، فتجيبني السيدة أنه ليس قبراً وإنما نصب تذكاري. ينهرها أحد الرجلين ثم يقول لي أنه في اقصى المقبرة ويشير غرباً. تتدخل السيدة مرةً أخرى وتقول "ستجده بالتأكيد" فكل القبور وجهتها نحو الجنوب، أما قبره فهو الوحيد المتّجه نحو الشرق.
وصلت إلى القبر. نقش عليه، بالعبرية والانكليزية "دوف جولان".
اقول في سريرتي مبتسماً، ها أنت يا عبد الرازق سعيد عبد القادر الجزائري مؤسس الدولة الجزائرية الحديثة، ثم اتحسّس النصب/القبر. يقول الصهاينة إنه بعد أن عاد حفيد الأمير إلى مستعمراتهم غيَّر إسمه إلى إسم عبري "دوف جولان"، وطلب أن يُدفنَ هنا ووجهته الشرق. هل فعلاً طلب عبد الرازق ذلك، أم هي النهاية السعيدة التي كتبها الصهاينة/المستعمِرين لمن أرادوه على شاكلتهم؟ الآن، الخامسة مساءً، أجلس تعباً بجانب النصب /القبر. اتذكّر قصيدة طه محمد علي:
"بعد أن اموت
ويسدل القلبُ المتعبُ
أجفانَه الأخيرة
على كل ما فعلناه
على كل ما تمنيناه
وعلى كل ما حلمنا به...
تشوقنا إليه
أو أحسسناه -
ستكون الكراهية
أولَ ما يتعفن
فينا"
أنظر حولي، الجميع غادر المقبرة إلا أنا. أبتسم فأنا ما زلت حياً أحارب العفن والموت، أنظر ورائي غرباً حيث هبطت إلى هنا، أرى طواحين الهواء التي مررت بمحاذاتها في أعلى التلة التي أنشأها الصهاينة لاستخراج الكهرباء.
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة