يا نازِحاً قَد نَأى عَنِ الوَطَنِ أَوحَشتَ طَرفي مِن وَجهِكَ الحَسَنِ

أَذُمُّ فيكَ الهَوى وَأَحمَدُهُ فيكَ مَزَجتُ السُرورَ بِالحَزَنِ

- البحتري 

الثامنة والنصف صباحاً أصل ارض "معين أبو ستة"، موطن صديقي سلمان أبو ستة وهي من بلاد غزة، تبعد عن بيتي 176 كيلومترًا، وقد تركت بيتي في الخامسة والنصف. "الواقعيّون" يسمّونها "حدود إسرائيل" مع قطاع غزّة، أما الصهاينة فأطلقوا عليها اسم "غلاف غزة" واستعملته "الممانعة" و"العرب" (كالببغاء) بفضل "شبكة مراسلين" من "عرب إسرائيل" عوضًا عن الأسماء الحقيقية.

 داخل "الكوبانية" (المستعمرة/الكيبوتس)، أخرج أوراقي وخرائطي، ومن خلفي وعلى يساري ويميني وأمامي، سياجٌ عالٍ ومُحكَمٌ وصلب يصعب اختراقه، يحيط ببيوت المستعمرين ودواجنهم التي تربيتها تشكّل أحد أعمدة اقتصادهم. كانت هذه الأراضي مزروعة بالشعير والقمح، وليس بعيدًا من هنا، كانت بيوت الشيخ حسين والد العزيز سلمان أبو ستة معدُّ وناشر "أطلس فلسطين" .

أفتحُ خارطة مشائين أعدَّها جغرافيّون صهاينة. سأمشي بحذرٍ وفقَ تعليماتها الصّارمة، فالمكان مسرح الحرب بين المقاومة و"جيش اسرائيل". وعلى ضفتي الجبهة السلاح جاهزٌ للقتل. وجهتي بيت أبو بريشة إبن عم والد سلمان، وقد حدَده لي العزيز سلمان على الخارطة التي أرسلها لي بعلامة صفراء وكتب بالانجليزية "منزل أبو أبريشة أبو ستة - البيت الأبيض" وعلى الخارطة العبرية كتب "البيت الأبيض" وهو الإسم الذي أطلقه المستعمر على البيت.

السيد سلمان أبو ستة

عمره الآن 85 سنة، ولد هنا واقتلعه الصهيوني من أرضه في 1948. ومنذ ذلك اليوم أصبح لاجئًا، زار فلسطين بجواز سفرٍ أجنبي بعد اتفاقيات أوسلو في 1995 وهي الزيارة الوحيدة له. قبل خمس سنوات، فتشت عن "أطلس فلسطين" من إعداد الأستاذ سلمان أبو ستة، هاتفته، ولكن المحادثة لم تكن مجدية، أكملت البحث فوجدت "أطلس فلسطين" في إحدى مكتبات رام الله.

مرّت أشهر قبل أن يرسل لي رسالة يطلب فيها أن أعاود الاتصال به. تحدثت معه، وكانت فاتحة صداقة مفيدة وحميمة. بعد قراءته النص الأخير بمجلة "رحلة" إتصل بي كالعادة، وكان ذلك على مسمع زوجتي فاقترحت عليَّ أن أمشي أرض ولادته.

أخبرت الأستاذ سلمان ففرح وزوَّدني بخرائط غوغل لمسقط رأسه وأسماء الكوبانيات/المستعمرات التي أقيمت على أراضيها وعددها أربعة، ووضع علامات للأماكن التي مسحها الاستعمار الصهيوني وأصرَّ عليَّ بزيارتها. 

أتكلم مع السيد سلمان أبو ستة وخارطة جوجل التي أرسلها إلي

انطلق فأنت الآن حرٌّ 

في الخريطة الرقمية، وبالعبرية، كتب التالي: "البيت الأبيض" منشأة من غرفتين، بداخله صالة عرض وفي ساحته تماثيل. كان لأبو ستة، شيخ بدوي، تركه سنة 1948". طلبت من الخريطة تحديد مساري فظهرالمسار بخط زهري.

اتصلت بالسيد سلمان في الكويت وأخبرته أنني وصلت إلى معين أبو ستة وسأذهب إلى بيت ابن عمه (البيت الأبيض) ويبعد عني 3 كيلومترات. يجيبني أن اليوم هو أجمل يوم جمعة في حياته، باغتني بهذا الجواب، وأصابني شعورٌ من الرهبة والذهول. سألني عن مكاني وقلت له إسم الكبانية فاجاب بأنها أرض التركة والسدر وبأنَّ والده كان يزرعها بالقمح، ثم وجّهني أن أذهب شرقاً ثم جنوباً "وستقطع الوادي قبل ذلك وستصل نيرين" (الكوبانية التي تليها). أستوقفه لأخبره بأن كل شيء محاط بأسلاك شائكة محكمة وبوابات ثقيلة ولا يمكن العبور إلا بحسب الخريطة التي بين يدي. وأشرح له أنّ المسار الذي يريدني أن أسلكه لا يمكن عبوره. وحين أجد مخرجًا، سأعاود الإتصال به. أتجه جنوبًا فأصطدم بسّياج وبوّابة فولاذية. أدور حول السياج متجهًا شرقًا فشمالًا. على يميني شمالاً أقنان أوز بأعداد هائلة، صوتها مزعج جدًا. أتفحص المسار الزهري فيشير عليّ بالرجوع، فأصل إلى البوابة الحديدية وأتفحصها، فالخارطة تقول إن منفذي من هنا ولكنها مغلقة بإحكام. فجأة أسمع صوت محرّك فألتفت ورائي، وإذا بعربة أمن، يقودها شخص تأهب لأي طارئ، تقفز من بين الأشجار وعلى الصخر المحاذي. شرحت لسائقها حالي وعن وجهتي فتأكد انني لست "مشبوهًا"، فهيئتي بالنسبة للجميع ليست "فلسطينية". أخرج هاتفه وضغط رقماً ففتحت البوابة وقال "الآن انت حرٌّ طليق".

الغرب أمامي وحقول شاسعة خضراء من عبّاد الشمس لم يتفتح لونه الأصفر بعد. ألمس القرص الناعم الصغير المنكمش، ثم أنظر إلى الأفق: لا بد أنها خان يونس، فالعزيز سلمان أخبرني بأن بيوتهم كانت على امتداد خط مستقيم معها غرباً. أعاود الإتصال بالسيد سلمان وأقول له أني أرى خان يونس، فيردُّ قائلاً أن خان يونس بمحاذاة الشاطىء وأن "عبسان هي التي تراها امامك"، واستغرب لماذا أنا متجهٌ إلى الغرب. أحاول أن أشرح له أن مسلكي يأخذني غربًا وشرقًا وجنوبًا لأن كل شيء موصد بإحكام. سأل إن كنت أرى "نيرين" الكوبانيه/ المستعمرة حيث يقع منزل إبن عمه، أخبرته أنني أراها فيقول "ولكنها جنوبا"، أؤكد له أني "أعرف ذلك "لا عليك". نتفق على معاودة الإتصال حين أبلغ بيت ابن عمه.

كل الحقول غربًا حقول عبّاد الشمس وما عداها حقول شعير وقمح كما كانت ذات يوم.

أجود جعة 

لم يذكر لي العزيز سلمان أن أرض بلاد غزة زرعت في القرن التاسع عشر بالشعير الذي كان يتم تصديره إلى مدينة ألوا (Alloa) الاسكتلندية لتصنع منه أجود أنواع البيرة وأنّ هذا الشعير كان قد حوَّل الجعة الاسكتلندية من مشروب "الأيام البارده" إلى مشروب لكل "أيام السنة"، فحصاد الشعير في اسكتلندا كان يتم في أواخر شهر أيلول وكان أقل جودة بكثير من شعير معين أبو ستة الذي يحتوي على نسبة سكرعالية وقشرته صلبة، وهو ما يميز شعير أبو ستة. ولأنه يُحصد في منتصف الربيع يتم تصنيعه صيفًا، فأصبحت الجعة مشروب "كل أيام السنة".

من المضحك أن الصهاينة وهم يقتبسون ويردِّدون كل الأفكار الإستشراقية يصنّفون أهل هذه الدّيار الحضر حتى يومنا هذا بـ "البدو". ولذلك ينعتون أهلنا هنا، الباقين أو المهجرين، بكلمة عبرية لها معاني خبيثة ودنيئة ما يمكن ترجمته " بدو البعثرة" أو "البعثرة البدوية" (HAPZORRA HABIDWIT). ولذلك يجب جمع "المبعثرين" في مكانٍ واحد. وهذا المصطلح هو الأداة الإيديولوجية والعملية التي يستخدمها المستعمر للاستيلاء على الأرض في بلاد غزة وديار بئر السبع في جنوب فلسطين .

"انا من البدو المبعثرة"

أشار المسلك الزهري بالخروج من البوّابة ووجهتها غربًا، أن انحني شرقًا، ثم أنفّذ انعطافاً حادّاً غرباً فانعطافًا حادًا شرقًا، حيث وعلى مدّ البصر شرقًا حقول قمح. أما جنوبًا، فأقنان دواجن على امتداد عشرات الأمتار تحجب الجنوب. لا صوت للدواجن، لكن الهدوء لا يدوم طويلاً إذ يخترقه صوت محرّك "بيك اب" يقترب مني ثم يتوقف. يطرح سائقه عليّ التحية بالعبري رغم أنه من أهلنا فهو ظن أني من "المستعمرين"، أو كما يقال عادة "يهودي"، فأرد عليه بالعربية. يستغرب كوني مشّاءاً في البراري، إذ يقتصر ذلك على المستعمرين. نكمل حديثنا بلغتنا العربيه، وأشرح له أني جئت أمشي خربة معين أبو ستة في أرض عشائر أبو ستة. وأسأله عن موطنه فيقول أنا من "المبعثره" - يقولها بالعبريه (hapzora) - تماما كما ينعت الصهاينه عرب هذه الناحية. أضحك لأخفي خجلي من تقمُّص ابن البلد النعوت والذهنيّة التي يلصقها به المستعمر لإقناعه بأنه أدنى من (سيده) (المستعمر)، فأبتسم وأقول: "تنعت نفسك بما ينعتونك به؟". لكنه كان متوجسّا مني، في حين لم أظهر غضبي الدفين من هذا الموقف. نخفي هواجسنا، أنا وهو، بضحكة تملّق كأننا مرآة أحدنا الآخر: أحدنا يرى القبح في من أمامه والآخر يرى الخوف والشك في من أمامه. أتركه وأنحني في المنعطف الذي يأخذني شرقًا، أرى سيارة كبيرة وعلى سطحها مخزنٌ ضخمٌ للعلف يزوِّد الأوز بزاده، فعرفت سبب الهدوء. ينظر إلي سائقها بابتسامة عريضة، أتقدم بخطاي نحوه فيقول لي بالعبرية سلام (عليك) فأرد التحية بنفس اللغة. أنعطف جنوبًا، أرى من بعيد جرَّاراً ضخماً يحرث الحقول الشاسعة التي تفصل بيوت مستعمرة/كيبوتس نيرين المسيجة بإحكام، حيث وجهتي، خربة معين أبو ستة: بيت ابن عمه، والمدرسة التي بناها والده وبقالة السوال ومسقط رأسه وبيارة والده والبئر داخلها. في نهاية المسار الزراعي المعبَّد جنوباً، أرى بلدة من بلدات غزة. أتفحص الخارطة فأعرف أنها عبسان الصغيرة وتلك كانت عبسان الكبيرة. قرَّرت أن أكمل طريقي لأصل "خط الهدنه" بين غزَّة وأرض معين أبو ستة المحتلة منذ 1948. أتردد بدايةً لكنّ شيئاً ما يدفعني دائما لتجاوز الحدود والمشي علي حافة الهاوية. يعتريني التوتر، أرى من بعيد بمحاذاة خط الهدنة، ما يبدو أنه سيارة دفع رباعيّة بيضاء، على يمينها مستحكمات على شكل كثبان مرتفعة. أعبر ما يقارب الـ 500 متر وما زالت السيارة البيضاء واقفةً في مكانها. يزداد توتري ويكبر خوفي، وعلى بعد 80 متراً مما حسبت أنها سيارة يتضح لي أنني مخطئ. أقف مرعوباً، بيوت عبسان الصغيرة أمامي، وأنا وحدي وجرّاران يحرثان الحقول خلفي، ولا أعرف أين يختفي السلاح وحاملوه وهل هم يتعقبونني.

في ساحة بيت إبن عم سلمان أبو ستة أو ما يسميه المستعمِر ومن بعده إبن البلد: "البيت الابيض"

البيت الأبيض

أعود أدراجي قاصداً بيت ابن عم الأستاذ سلمان: "البيت الأبيض". 

حين عزمت المشي في هذه البراري موطن الأستاذ سلمان، أرسل لي أسماء المستعمرات التي أقيمت على أرض معين أبو ستة، فحدَّدت المنطقة حسب أسماء المستعمرات، وبدأت القراءة عنها فوجدت موقعاً اسمه "البيت الابيض "، كتب عنه أنه متحف وصالة عرض نصبت في ساحته تماثيل لفنانين اسرائيليين معروفين. وقرأت أيضاً عن موقعٍ وَرَد عنه أنه خربة معين أبو ستة "قرية بنيت في القرن التاسع عشر". أما الصورة فكانت لبيتٍ قديم من غرفتين من الإسمنت المسلّح وليس من الحجارة.  اتصلت بالأستاذ سلمان للاستفسار عن خربة معين أبو ستة و صورة البيت فأجابني أن هذا البيت هو بيت ابن عمه والآن هو صالة عرض، وأخبرني بأن صديق لصاحب الصالة، وهو يهودي مناهض للصهيونية، أخبره عنه وأخبر صاحب الصالة عن ملكية آل أبو ستة، للبيت/الصالة وأنه أقنع صاحب الصالة بإقامة معرض عن سيرة حياة أبو ستة ووالده، زوّده بها الأستاذ أبو ستة (...). أصمت..! لم أقل بأني أمتعض حين أسمع "شهادة " فلسطيني عن "اليهودي الطيب" "المناهض للصهيونية" الذي "يشهد لنا" على تاريخنا و"مأساتنا"، إلا أنه "الأستاذ سلمان أبو ستة شيخ فلسطين". لذلك سحقت أحاسيسي ولزمت الصمت إلى الآن.

أمضي، متوتراً، في مسلك ترابي ملتوٍ ومتعرّج، قاصداً بيت أبو أبريشة - وهو شمال موقعي -  وما زالت حقول الشعير والقمح منتشرة على كل الأطراف من حولي.

الدبابات الجاثمة 

صوت الجرّار يقترب ويبتعد، يعلو ويخفت، ويتلاعب بالهدوء وحفيف أوراق الأشجار فيطربني. أتجه شرقا، أدقِّق بالمسلك الزهري: عليّ أن أمشي 30 متراً ثم عليّ الانعطاف شمالاً، ثم شرقاً فشمالاً، وبعد 800 متر من ذلك أصل بيت أبو ابريشة. سأتصل بصديقي، حين أكون داخل بيت إبن عمه وأقف أمام اللوحات والرسومات المعلّقة على جدرانه أفاجئه واقول له "انا في داخل بيت ابن عمك حيث عرض صاحب البيت المستعمر وذلك "المناهض للصهيونيه" حياتك وتاريخك!" (وأقسمت أن لا أظهر أي تهكّم في كلامي).

اجتزت الـ 800 متراً. يشير الخط الزهري بأنني أقف على "البيت الأبيض"، ولكني لا أرى شيئاً سوى امتداد طريقي، وحرشاً عن يميني ومنتزهاً مهجوراً عن يساري. أتقدم بعض الخطوات وأتوقف مضطرباً: "كيف وصلت إلى هنا؟": أمامي خمس دبابات جاثمة وبمحاذاتها معسكرٌ مسيَّجٌ بإحكام فائق. أنظر حولي مشدوهاً بلا حراك، ألتفت يمينًاً - على بعد بضع أمتار من الدبابات - أرى بيت إبن عم الأستاذ سلمان كما رأيته بالصور إلا انه مهجورٌ ومقفل. أتقدم إلى ساحته المغروسة بالتماثيل المهملة التي يعتريها الصدأ، أتصل بالأستاذ سلمان وأخبره بأنني وصلت إلى بيت إبن عمه فيقول بانفعال كبير "وصلت البيت الابيض"؟!، " نعم وصلت بيت إبن عمك وهو مهجور ومقفل وبجانبه معسكر وجنود ولا أستطيع الحديث معك الآن فإن سمع جنديٌّ منهم العربية فلا أعرف ما سيكون رد فعلهم. ساتصل بك حين أبتعد عنهم. لا يأبه بمحاذير ما أقول ويتابع :"أنظر غرباً واتجه بخطٍّ مستقيم سترى بيّارة والدي وبداخلها بئر البيارة" ثم يستدرك ويقول بتعجب "البيت الابيض مقفل ومهجور؟"

أقترب من البيّارة. البئر على بعد 30 متراً ولكن لا يمكن دخول البيّارة لأنها مسيّجة. يمر بجانبي جيب عسكري مصفح، أمشي مع السياج المحيط بالبيارة فأصل إلى جهتها الجنوبية. سيارة جيب عسكرية أخرى تمر بجانبي، أواصل المشي غرباً، أجد أمامي بوابةً مغلقة. أتصل به مرةً اخرى وأخبره عن صعوبة الدخول مشغّلاً محادثة فيديو معه لينظر بنفسه ويشاهد البيارة ويعاين ما وجدت.

مسقط الرأس 

أترك المكان ووجهتي مكان المدرسة التي بناها والده. لقد أنشأ المستعمر فوقها مقبرةً لدفن موتاه. المدرسة تبعد عني 350 متراً شمالاً بالطرف الآخر للبيّارة. ولكن، ووفقا للخط الزهري، عليَّ أن أمشي كيلومتراً ونصف، شمالا ثم غربا فجنوبا فشرقا، لأتجاوز كل الأسلاك الشائكة. أمرُّ بين الدّبابات ومقرّ المعسكر، ألتقط صورةً مع الدبابة بالمؤقت الآلي للكاميرا، فأسمع ضحكات وأصوات وكلاماً بالعبرية. ألتفت إلى مصدر الصوت فأرى أربع جنودٍ يحتمون بظل الدبابة ويتمازحون ويبادرون بالتحية فيقول أحدهم "يا هنيالك"... تتنزه في المنطقه؟! استمتع بنزهتك"، شكرتهم وأكملت طريقي - "محظوظاً" في مثل هذه المواقف، فلا أحد منهم يشتبه بأني فلسطيني! أقترب من المقبرة، أدخل سبيلاً معبّداً، على يميني شجرة كينا تحتها مقاعد للاستراحة حيث تنتهي الطريق بمقاعد مظلّلة للإنتظار اثناء إتمام طقوس الدفن، و خلفها شواهد المقبرة. أدخلها وأقف عند شواهدها وقد دوِّنت عليها أسماء موتى سكّان الكوبانيه. أتصل بالسيد سلمان، أخبره بموقعي فيطلب مني الخروج من المقبرة. تعليماته صارمة. يطلب مني أن أتوجّه جنوباً في مسلكٍ مرصوف بحجارةٍ بيضاء، أصل ساحة مرصوفة بنفس الحجارة فأخبره بذلك فيقول "هنا كانت المدرسة التي بناها والدي" ويأمرني "قف على الساحة تماما"، أخبرته أنني أقف في وسطها وأمامي نصب لصهاينة قتلوا هنا. "قتلناهم أثناء المعركة معهم"، يعقّب، "لكن يجب أن تقف على الساحة المرصوفة" وأكرِّر"أقف عليها". "الآن اتركها"، يأمرني، " إذهب غرباً بخطٍّ مستقيم مسافة 150 متراً. هناك مسقط رأسي، هناك ولدت".

الوصية 

أبدأ بعدّ الخطوات، لم أعهد مثل هذه المهمة في حياتي. فلم أدفن أحداً من قبل، إلا أنني يوما ما ربما سأدفن السيد سلمان أبو ستة.

وفيما كنت اخطّط للمشي في أرض سلمان ونتبادل الحديث والمعلومات بشأنها، قال أن أمنيته أن يدفن "بالمكان حيث ولد". لم اعقِّب على أمنيته، فمن المستحيل أن يسمح له الصهاينة بذلك. بعد ساعات هاتفته، وطلبت أن يرسل وصيّته مع توقيعه عند كاتب عدل لكي أعرضها على محامٍ لعلّنا نجد مخرجاً للعمل بالوصية حين يأتي الأوان. بعد بضع ساعات أرسل وصيته مع إحداثيّات مكان الدفن ومن دون التوقيع عند كاتب العدل. كنت أعدّ الخطوات وأنا أفكّر بكل هذا العبث، فأحسست بتعبٍ شديد وانتابني جوعٌ وعطشٌ لم اعهدهما من قبل، وأصبحت خطاي ثقيلة أجرُّها متعباً إلى أن وصلت المقعد تحت شجرة الكينا حيث اتممت عدّ الـ 150 خطوة. إتصلت به مجدّداً، وكنت أشعر بالدوار حين قلت له "أنت ولدت حيث أقف"، وشغَّلت محادثة الفيديو لأريه ما حولي وأعرض عليه المكان قائلاً له "انت بمحاذاة مقبرتهم" فيردّ: "لا تقبرني داخل المقبرة بينهم".

الفسيفساء المهملة للكنيسة في أرض معين أبو ستة وكان يسكنها عرب مسيحيين وكانت كنائسها في كل مكان وإحداها زوّرَت ليدّعي الصهيوني أنها كنيس

الإعياء

في إعيائي وجوعي تشتدُّ حاجتي إلى سوائل محلّاة. أجلس تحت المظلّة المعدّة لانتظار دفن الموتى والقبور خلف ظهري. أعدُّ مشروب الزهورات المغلي وأزيد حلاوته وأنهش طعامي نهشاً. أتعافى قليلاً وآخذ قسطاً من الرّاحة. لقد أتممت المهمة. هنا سأحمل جثمان السيد أبو ستة وأدفنه - إذا نجحت في إقرار الوصية - أما هو، فيقول لي قبل أن أنهي مكالمتي معه: "سأقول لهم بانك تعرف مكان دفني".

أجمع أطباقي وكؤوسي وأتجه شمالًا. يعرف الأستاذ سلمان وجهتي وسأواصل تحدثي معه حتى أصل إلى سيّارتي وأغادر المكان. سأزور الكنيسة التي زوَّر الصهيوني تاريخها وقال إنها آثار كنيس يهودي. وسأزور مقام الشيخ نوران في المستعمرة الرابعة حيث سيارتي لأستقلّها عائدًا إلى بيتي. لكني الآن سأتفرَّغ إلى أكثر ما أتوق رؤيته في هذا المشي أو كتابة فلسطين في وعيي وفي من يقرأ وعيي، وهو أن أزور المهبط الذي يسمّيه الصهاينة المطار العسكري البريطاني وخط سكّة الحديد التي تصل إليه، وقد أصبح هاجساً لدي تعقب الأثر الاستعماري البريطاني لبلدي والذي بدوره أيضاً مسحه الصهيوني غير آبهٍ بأنه هو والده ورحمه في آن.

كانت الأرض هنا دائماً للعرب وكانت كنائسنا تترامى في كل جهاتها إلا أن من حكمنا كان البيزنطيون. سأمرُّ بكنيسة أخبرني السيد سلمان كيف زوَّرها وحوَّلها الصهاينة من كنيسة إلى كنيس. أترك الكنيسة بعد أن أهاتف السيد سلمان مجدداً ويشرح لي كيف تم التزوير. وأمضي بين حقول القمح المترامية. أما في الجهة الجنوبية الشرقية فمستعمرة/كيبوتس /كوبانية أُنشئت بمحاذاة الشيخ نوران. أصل إلى مفترق طرق أحدها طريق معبد ويصل إلى البوّابة الشمالية للكوبانية، والآخر طريق ترابي يمتدّ جنوباً على بعد 100 متر من هنا/ المهبط -المطار/، أصِلُ إليه، أدخل حقل قمح، أقف على الإحداثية التي تشير إلى وجود المطار وسكة الحديد وحيث لا أثر لهما، فقد أُزيلا تمامًا سنة 1956 كما يذكر أحد المصادر الإسرائيلية، وسوِّيت الأرض وأصبحت تزرع بالقمح .. فـ "كان يا ما كان" مطارٌ وسكةُ حديد أتيا بالجيش البريطاني الغازي إلينا، وبمحاذاتهما الوادي الذي عبر منه المستعمر البريطاني واحتل أوَّل ما احتل من فلسطين أرض معين أبو ستة.

أكمل طريقي جنوباً ثم شرقاً حيث سيارتي. وفي منتصف الطريق، آثار كنيسة بيزنطية أشار عليَّ الأستاذ سلمان بزيارتها لأقف على التطابق بينها وبين ما زوَّره الصهيوني وزعم أنه كنيس. أساساتها مسيجة مخرّبة ومهملة، فسيفساؤها مقتلَعة ومندثِرة، ومعالمها ضائعة. أما مقام الشيخ نوران فهو أمامي على بعد أقل من مئة متر وبالقرب منه سيارتي: أرى سياجًا كما في كل مكان. إذاً، عليَّ الدوران حول الكوبانية ثم العودة بموازاة مكاني هذا، ما يقرب الـ 2 كيلومتر لأقطع مسافة 100 متر. 

 أقف أمام مقام الشيخ نوران، وألتقط صورةً له وأرسلها للأستاذ سلمان. أستقلُّ سيّارتي. البوابة مغلقة. حتى الآن، الثالثة والنصف بعد الظهر، مشيت 25 كيلومتراً لأبلغ اماكن يبعد بعضها عن بعض أقل من عشرة كيلومترات، أنتظر لعلَّني أجد أحدًا قادماً أو خارجاً ليفتح البوّابة، لكن لا أحد. أعود أدراجي، أرى صبيةً أسألها كيف عساني أخرج من هنا: "عد جنوبا وحين تقترب من البوابة سافتحها لك"… فتحت البوابه.

في مفترق، كان يربط يوماً ما خمس طرق تصل جهات البلاد بعضها ببعض، كانت "بقالة الشروال" ليس بعيداً عن مسقط رأسه / موقع وصيَّة دفنه. أهاتفه لأخبره بأنني عائدٌ وسأتكلم معه بعد أن أصل إلى البيت. أنظر حولي فأرى بيّارة حمضيات أقطف منها وأعود قاصداً بيتي. ذلك أنني، بعد أن انتقل ابني وابنتي للعيش في أرض يافا القدس (تل ابيب)، بتنا انا وزوجتي نعيش وحدنا. وحيث الآن هي خارج البيت، أجلس وحدي في حوش بيتنا أنتظرها. لا أريد أن اتحدث أو أستمع إلى أحد الا هي… لأقصَّ عليها أحداث يومي كاملةً وبالتفاصيل المملّة.

كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة

لمزيد من التفاصيل أنقر هنا
Patreon support button