"لو انيّ كلب لاعترتني حميّة لجرويَ أن يلقى كما لقي الإنسُ 

أرى الحيَّ جنساً ظلّ يشملُ عالمي بأنواعه لا بورك النوع والجنس"

أبو العلاء المعري

قبل ثلاث سنوات، مشيت الجهة الغربية لجبل الكرمل مع زوجتي من جبع وصولاً إلى الماقورة. صعدنا شرقاً قاصدين زيارة القمبازه وأم الدرج .قريتان طُرد أهلهما إثر احتلال الصهاينة فلسطين. وصلنا إلى مزرعة ورآنا أحد الشبان من أفراد الأسرة القاطنة هناك، فاستوقفنا وقال "لا يمكنكم مواصلة السير لأنها منطقة تدريبات عسكرية".

أنا الآن في طريقي إلى هناك. حدَّدت مكان إنطلاقي من جنوب قرية دالية الكرمل. تخترق الحافلة التي استقِلّها قرية عسفيا الملاصقة من شمالها إلى جنوبها لتصل إلى دالية الكرمل. لم يبقَ من قرى الكرمل إلا هاتين القريتين، بعضهم يسميهما "قرى درزية".

تعبر الحافلة الشارع الرئيسي لعسفيا وإسمه "ابا حوشي" على إسم قائد صهيوني عاش في حيفا وكان يفاوض الإنكليز على احتلال الحركة الصهيونية المدينة، إلا أنّ دوره الأهم كان في محاولاته نقل هذا المجتمع (الدرزي) من أهلنا إلى جبل العرب. وكان يتفاخر، ومعه الحركة الصهيونية، بصورة تجمعه مع سلطان الأطرش. وقد أسهب قيس فرو، وهو باحث فلسطيني من أبناء هذه القرية، في تدوين هذا التاريخ من منظور النقد الإستعماري وعلاقة هذا الصهيوني بهندسة هذه الطائفة لإخضاعها لـ"دولة إسرائيل".

المنحدر 

أترجّلُ من الحافلة لأصل بداية المسلك إلى أم الدرج وقمبازه وأُعَرّج على سمّاقه. 

لم يسبق لي أن زرت هذه الناحية، أي الشقّ الجنوبي الشرقي من جبل الكرمل. لا إشارة تبيّن المسلك كما تشير الخريطة. كل شيء من حولي مطمورٌ بالنفايات، أسلاك شائكة وبلاستيكيات وبقايا مواد بناء. أتعثّر بأسلاك شائكة مطمورة، أهوي أرضاً، أنهض وأتابع سيري، أجتاز الوادي مبتعداً عن النفايات والقاذورات، متّجهاً غرباً ثم جنوباً. ألتفتُ إلى يميني، أرى كشكاً من ألواح القصدير وبقايا أخشاب وأمامه طاولة بلاستيكية بيضاء عليها زجاجات كُتِبَ عليها بالعبرية: زيتون، عسل، دبس خروب، زيت زيتون، لبنة. وفي الرّكن، تجلس إمرأة ترتدي زيّ دروز بلاد الشام، وأمامها صاج مقلوب تخبز عليه ما نسميه "خبز شراك". أمّا اليافطة الكبيرة التي تستقبل الزبائن فمكتوبٌ عليها بأحرف كبيرة بالعبرية "خبز درزي" Druze Pita Bread، وهو الأمر الذي يؤهل وبجدارة هذا المكان وأصحابه لمنافسة الكاتب البريطاني ف. س. نايبول بعلاقتهم بالمستعمِر الأبيض أو لتشكيل موضوع بحث لتحليلات باولو فريري البرازيلي وقبله فرانز فانون.

أمضي في طريقي أعبر موقف السيارات الخاص بالمتنزهين ثم بعده ما كان سابقاً معسكراً لإحدى كتائب الجيش الإسرائيلي.

أذهب إلى الطريق الذي سيأخذني إلى داخل الأحراش لأبلغ تلك القرى. صخرتان كبيرتان مصنوعتان من الإسمنت على جانبَي بداية المسار، على إحداهما كُتِبَ "ممنوع الدخول - منطقة تدريبات عسكرية ". وكُتب على الثانية "لدخول المنطقة وجب الإتصال بغرفة العمليات العسكرية على الرقم التالي [---]."

إتصلت بالرقم فأخبرني أنّ تدريبات إطلاق نار جارية الآن، وعليه، يُمنع الدخول. غضبتُ بسبب غياب أي تحذير على الخارطة، كما جرت العادة. 

قصر العرب 

صُدمت من إجابة الجندي، فاليوم يوم الجمعة وهو بداية عطلة نهاية الأسبوع، والدخول خلالها مسموح.

خمس سنوات مرّت وأنا أزور مناطق متفرّقة من سلسلة جبال الكرمل التي نادرًا ما تُسمى جبل مار الياس، لأن المسيحيين يعتقدون بأن عودة المسيح ستسبقها عودة تلميذه إيليا أو "الخضر"، وهو اسمه العربي، ويقع مقامه في أسفل السفح شمالًا. كان أهلنا يحتفلون به في تاريخ محدد من كل سنة، ويأتون من كل بلاد الشام للمشاركة في هذه المناسبة. وكان الحجّاج المسيحيون والمسلمون العرب يأتون لزيارته وينزلون في قصر شيّده عبد الله باشا والي عكا ثم استولى عليه الكرمليين ونزل به الحُجّاج، فسُميَ قصر العرب. أخذه البريطانيون في الحرب العالمية الثانية وبعدهم أخذه الجيش الإسرائيلي عنوة من الكرمليين. وبقي، حتى يومنا هذا، تحت سيطرة الإسرائيليين، بعقد إيجار من الكرمليين.

كنت أرى حيفا وجبل الكرمل كوِحدة حال، ولم أكن أعرف أنّ حيفا والكرمل وحدتان منفصلتان، وأنّ سقوط حيفا تمّ بتطويقها من أعالي قمم الجبل ومنحدراته بعدما أقيمت مستعمرات في الشاذلية وأم الزبالة وفرش حسن وفرش مدور وبير التينة وروشميه ووادي كلب الحجر ووادي العشاق ورأس الست والخريبة ومقتل اسكندر وغيرها. كنت أجهل أيضا أنّ هذه السلسلة من الجبال هي امتداد لجبل نابلس وأنّ جميع قراه دُمّرت ولم يبقَ منها أثر: أجزم، عين غزال والمزار وجبع وعتليت وطيرة حيفا وكفر لام والسامرية والصرفند والشلاله وقمبازه وأم الدرج وأم الزينات وعين حوض وغيرها. زرت جميعها ما عدا الخرب وها أنا قاصدها الآن.

بير الحاج عبد الغني

أبحثُ عن مسارٍ بديل في جوار الصخرتين، ألتفت يساراً فأرى على بعد 30 متراً مسلكاً بديلاً للتدريبات العسكرية.

أتقدم في المسلك، أتفحص الخارطة الرقمية العبرية، أضغط على دائرة بُنية اللون تفتح نافذة تشير إلى طريقي نحو بير عبد الغني. أبتسم. بقي الإسم بير الحاج عبد الغني، لم يقوموا بتغيير إسمها.

أرى حائط البئر من بعيد وسقفها قائم كما كان بين الأشجار. أتفحصها، أدور حولها، أصعد إلى سطحها. فيه فتحة لانتشال الماء، فأرى انعكاس صورتي على الماء.. المكان هادئ يخترقه صوت سيارات قادمة من بعيد أو قريبة مسرعة. أنزل من على سطحها أدور حولها مجدداً. أجد فتحة صيانة لتنظيف البئر وإعدادها لموسم الأمطار.

من هو هذا الحاج عبد الغني؟ أسرح في خيالي فأراه وزوجته وعياله وماشيته وحدائقه، أرى حياةً لا أعرف إن كانت قساوتها تطابق القساوة التي رسمتها في خيالي أم تلك التي بمقدوري تخيّلها، إلا أنني أشعر بنشوة حضورهم معي ولو في الخيال.

أصعد مرةً أخرى إلى سطح البئر، التقطُ صورة لانعكاس جسدي داخل الماء. أنزل وأجلس جانباً. أغلي ماءً في إبريقي وألقي داخله بالزهورات والشاي، أشرب فنجاني وأتأمل البئر: ما زالت شيئا قائماً يشبه المكان وما كان عليه.

أنهض واتّجه غرباً. على بعد كيلومتر، تقع سماقه. الطريق الترابية تأخذني شمالاً ثم أعرّجُ غرباً. أقترب من المكان عند المفترق. أنظر إلى خارطتي التي تشير أن عليَّ المتابعة قليلاً ثم الإنحناء شرقاً. تعبُر بجانبي سيارة دفع رباعية بداخلها رجلٌ وطفلين. يحييني بالعبرية فأردُّ التحية بتحريك رأسي. أنحني شرقاً، أما هو فيقف على بعد ثلاثين متراً مني وينزل مع ولديه ويختفي خلف التلة.

أصل إلى شجرةِ حولها حجارة لأبنية انهارت أو دُمِّرت لا تشبه ما قرأته للباحث السويسري فون مولين في كتابه "مساهمات في معرفة جبل الكرمل"، الصادر في 1908، إذ لا يوجد معبد ولا مغارة عملاقة. أبحث في كل مكان ولا أجد سوى نباتات الزعتر نضرة خضراء. أقطف منها قليلاً واقرّبها من أنفي. تسكرني رائحتها فأستنشق المزيد. بالقرب منّي، أسمع أصوات دويّ انفجارات وعياراتٍ نارية. أُخرج كيساً من حقيبتي واقطف الزعتر مِلأه ثم أعود إلى المفترق. أقرر الذهاب إلى القمبازه المهجَّرة وهي تبعد عنّي حوالى ثمانية كيلومترات.

أنظر إلى الخارطة الرقمية لأحدِّد دربي. ألاحظ لافتة تقول إن المنطقة عسكرية والدخول إليها مسموح فقط في نهاية الأسبوع بتصريحٍ من الجيش. أتصل بغرفة العمليات، أسأل إن كان بإمكاني الذهاب إلى أم الدرج. أقولها "بلكنة" المستعمِر. يردّ بأنه لا يفهم ماذا اقول، أتذكر أنّ الإسم العربي قد صُهين فأعيد عليه: أريد الوصول إلى ديرج. فيطلب مني الانتظار. يعود ويفيدني بأن لا وجود لأي نشاط عسكري في المكان، بل على مقربة منه. ثم ينصحني بألّا أذهب حالًا لأن التدريبات ستنتهي عند الساعة الحادية عشر.

أنظرُ إلى ساعتي، إنها التاسعة والنصف. أقرر الذهاب شمالاً إلى خربة الكرك التي تبعد ثلاثة كيلومترات وتقع على مقربة من نقطة إنطلاقي صباحاً. ثم أعود إلى قمبازه وفي طريقي أعرّج على أم الدرج.

أتقدم شمالًا. أسمع صوت سيارة الدفع الرباعي تقترب مني. تتوقف السيارة وفيها الرجل وولديه فيقول لي "يبدو انك لست من هنا". أجيبه ببرودة بنوع من الازدراء "بل من هنا وأنا في خربة سماقه"، فيجيب "ولكنك لم تذهب إلى الخربة نفسها، حيث كنت أنا مع أولادي. هناك سترى أجمل ما في المكان: السلمندر وحوض الماء، ما كان معصرة نبيذ والشمعدان (رمز اليهودية)". ويسأل من أين أتيت، فقلت "من الناصرة".. قال "من الناصرة أم من ضواحيها؟" قلت "من الناصرة". قال "أعرف ضواحيها". قلت "ومن أين أنت؟" قال "من عين هود". قلت "تقصد عين حوض التي هجّرتم أهلها"، فغادر. أمّا أنا فبقيت في مكاني مسمَراً.. يغيب عن ناظريّ أستدير إلى الخلف غاضباً من تعاملي معه بفظاظةٍ  وأمام طفليه. فظاظتي أتعبتني.

أعود إلى حيث أشار، أجد نفسي على حافة وادي النحل وهذا الجزء منه يسمى وادي سماقه. إنّه جنة! ما هذا الجمال! يصعب وصف الإحساس بالجمال حين تقف أمام الطبيعة الصامتة، تدمع عينيَ فرحاً، أقع في حيرة… أأشكر فظاظتي مع ذلك الرجل وطفليه فهي ادَّت بي للتكفير عنها بالرجوع إلى حيث أشار؟ أم أشكره لأني أريد أن أقف على أطلال خربة السماقه؟

رغم الجمال والصمت والتكفير، لم أرَ ذلك المعبد الذي ذكره فون مولين في كتابه، أبحث بالعبرية وقد صُهين الإسم من سماقه إلى "سومك" وترجم الصهيوني "سماق" على انه سمك. وقد أشار صاحب الكتاب إلى المعبد بهذه الصيغة "ربما كان كنيساً" وأصبح بحسب ترجمة الصهيوني "كنيس بلدة يهودية قديمة اسمها سومك من كبرى القرى اليهودية على الكرمل". لست مغرماً بالسلمندر ولكن إذا كان المقصود ذلك المخلوق الصغير الذي يسبح في ماء الجرن فقد كنّا نسميه في طفولتنا "الرحراح". أمّا المخلوق الأصغر والأدق فكنّا نسمّيه العلق. وحين يأتينا الظمأ ونحن في الوعر (البراري)، كنّا "نسبح" أي  نتناول سبع أحجار صغيرة نلقيها تباعاً في الماء. فإن لم تتعكّر المياه ننبطح على بطوننا ونشرب الماء كما هو رغم وجود العلق. أقف بجانب الحوض، أشعر وكأني أحلّق في السماء وحيداً حراً، أتقدم قليلاً ثم أجلس وأستلقي، أشعر في لحظات حميمية لم أألفها "من زمان".. لا أحد هنا: فقط أنا وذلك الوادي العميق من تحتي.

العلم نورٌ

عرفت بوجود خربة السماقه وبعض الخرب الأخرى من قراءتي لكتاب فون مولين وقرأته بالعبرية محرَراً ومصهيَناً. ولم أجد ترجمة عربية له.

في الترجمة حافظ الأكاديميان الصهيونيان على الإسم الأصلي السماقه مع إضافة إسم الرواية أو الإسم الصهيوني أي "سومك". ولم يكن فون مولين الأوّل ولا الأخير الذي نشط في كتابة الجغرافيا والتنقيب عن الآثار وكتابة تاريخ فلسطين. بالنسبة للمسيحيين الأوروبيين المستعمِرين، وطني كما لخّصه الرحّالة والباحث الفرنسي Victor Guerin في عبارة  ترجمتها كالتالي: "لدينا وطنان. مسقط رأسنا ووطن إيماننا وحين نعود إلى هذا الأخير يمتلكنا الإحساس نفسه الذي يتملكنا حين نغيب عن مسقط رأسنا ثم نعود اليه".

لكن يظلّ عالم اللاهوت الأميركي الإنجيلي روبنسون الأب الروحي لعلم الآثار الصهيوني. فمثله، اعتبرَ أيضاً أن أسماء جميع القرى الفلسطينية ما هي إلا أسماء عبريّة محرّفة وأنّنا نحن الفلسطينيين أهل البلد لسنا إلا سلالة العبريين الأوائل وحياتنا لا تزال كما كانت على زمن المسيح والعهد القديم. وعلى هذا الأساس يقيس الباحث كل شيء ويبرهن نظريته ليصبح علم الآثار الصهيوني وكل العلوم الصهيونية مجيّرة ليس لفهم طبيعة البشر وتاريخها وحقائق التكوين والسلوك البشري وإنما لإثبات أنّ فلسطين هي أرض إسرائيل وأن فلسطين زيف تاريخي أسقَطه على أرض إسرائيل وشعبها بشرٌ لا أصل لهم ولا فصل. وفي حين كتب الإنجيلي الصهيوني ربما بمعنى "ربما كانت هذه المنشأة هي كنيس" أو "ربما كانت هذه القرية هي القرية التلمودية"، عمد "العِلم الصهيوني" إلى حذف هذه الـ "ربما" وأخرجها من قاموسه إلى أبد الآبدين.

إلا أن المفارقة والحسرة والسخرية تهز كيان هذا "العِلم" حين تكتشف ما كنت تعرفه بالحدس وفكرك الراديكالي وفظاظتك السلوكية وهو ما يكتبه صهيوني من أعضاء "لجنة الأسماء الحكومية" التي تُسمّي الأماكن والمواقع في فلسطين أو ما يعرف دولياً "دولة إسرائيل". جلّ نشاط اللجنة هو تغيير الأسماء العربية إلى عبرية أو صهينة فلسطين بدءًآ بالإسم "أرض إسرائيل". شُكّلت هذه اللجنة في 1922 حين عيَّن فيها المندوب السامي البريطاني الإستعماري لفلسطين هربرت صموئيل ثلاثة صهاينة جلّ نشاطهم صهيَنة خارطة فلسطين. وإثر ذلك، في 1925، قامت "الكيرن كييمت"، وهي إحدى المؤسسات الصهيونية الأبرز في استعمار فلسطين، بتشكيل لجنة لتغيير الأسماء العربية إلى صهيونية. ثم تحوّلت اللجنة بعد أن احتلّت الحركة الصهيونية فلسطين إلى "اللجنة الحكومية للتسمية".

يكتب هذا العضو كتاباً عن آلية صهينة الأسماء العربية التي يتضح أنَّ جزءاً كبيراً منها تمّ بتحريف الأسماء العربية كما تلفظه الأفواه وتسمعه الأذن الأوروبية الصهيونية، فـ "أم طوله" اصبحت "المطوله"، (عرّبها العرب لتصبح المطلة!) أمّا عرطوف فأصبحت "هرطوف" والفولة أصبحت" العفولة". ويأتي العضو على ذِكر مثال آخر مُسلٍّ للغاية، ففي ربع الناصرة، وهي أرض من أراضي مرج إبن عامر، باعها آل سرسق للصهاينة الذين أقاموا عليها مستعمرة أطلقوا عليها لاحقاً اسم كفار جدعون، فيقول: الأذن الأشكنازية سمعت ونطقت ربع الناصرة، يروبعل (الناصرة) وهو لقب قاضٍ مهم لدى بني إسرائيل إسمه القاضي جدعون. وعليه، قرّرت لجنة الأسماء تسمية تلك المستعمرة على إسم ذلك القاضي، أي كفار جدعون. إلا أن هذا الإسم تسلّل إلى مثقف عربي إسرائيلي كان من الصف الثاني للحزب الشيوعي، فكتبَ في أحد المواقع الإلكترونية الإخبارية عن عين ماء ودعا الناس إلى زيارتها وهي عين المالحة. وقد أشار إليها بتسمية عين "كفار جدعون" ويضيف أن كفار جدعون سُميت على إسم القاضي اليهودي جدعون بن يوآش الذي ولد في "عوفرا" في عهد التوراة. وتقع آثار "عوفرا" على مقربة من هذا المكان (والمقصود كفار جدعون وعين المالحة / ربع الناصرة). غني عن القول بأن "العِلم الصهيوني "  الذي ينهله "العربي الاسرائيلي " أصبح "علم خزعبلات"، فلا آثار هناك ولا من يحزنون!

الوقت الضائع

ما زالت الساعة العاشرة وأم الدرج تبعد عنّي ثلاث كيلومترات ونصف. سأصل إذاً قبل انتهاء التدريبات العسكرية. أنهض من مكاني وأعود حيث التقيت بالرجل وطفليه. كنت أود الذهاب إلى خربة الكرك فهي أيضا تبعد نفس المسافة ولكنّها بالإتجاه المعاكس.. أقرر المخاطرة والذهاب إلى أم الدرج. الدرب شائكة وتصعب رؤية ما يحيط بها. أمشي عشرات الأمتار فتنجلي أمامي صورة مدهشة: هيكل منشأة يعيدني آلاف السنين إلى الوراء. إنّها "سماقه" التي كنت أبحث عنها، ووصفها "فون مولين" بعد أن دلّه عليها دليلهُ أبو أحمد. أدور حول المنشأة مبهوراً بجمالها. إنها بلدي، تراكمت فيها كل النشاطات والإبداعات البشرية لتكون ثقافتي وحضارتي العربية في فلسطين. أمضي الوقت وأنا أتلمَّس الأعمدة وأنظر بشغف إلى كل شيء فيها ومن حولها. أنظر إلى البعيد فيتجلّى الكرمل بتضاريسه وتعقيداته بجمال لم أعهده من قبل. صمت مطبق، ولا صوت لأية سيّارة دفع رباعي.

أنزل المنحدر تاركاً ورائي السماقه ومعبدها متجهاً إلى أم الدرج. أمشي في قاع الوادي الذي أصبح طريقاً ترابياً للمجنزرات وسيارات الدفع الرباعي، ثم اصعد لأبلغ قمّة التلّة. أرى من بعيد جدار بيت لا زال نصفه قائماً وخلفه شجرة زيتون، إنها أم الدرج. أقترب من البيت وأجلس فوق الجدار. أنظر حولي، على يساري وعلى بعد عشرة أمتار حطام بيوت أخرى. أسير باتجاهها وأرى براميلَ من الحديد مثقوبة عشرات الثقوب ومبعثرة في المكان. لا بدّ أن مجنداً إسرائيلياً أفرغ بها رصاصه. وعلى مقربة من البراميل جرنٌ كبير يقول علماء الآثار أنه معصرة للنبيذ. أجلس على حافته وأنظر حولي: الكرمل بكل جباله وتلاله أمامي وكأني عند سقف العالم، جنوباً البحر المتوسط وشرقا جبل نابلس.

أُخرج زادي وقهوتي. يكسر الصمت صوتَ سيارات رباعية الدفع يخرج منها سبع رجال إسرائيليين وامرأة، وحدها كانت تغطي عينيها بنظارات شمسية. أحضروا معهم كراسيهم وجلسوا في أعالي التلة بالقرب من شجرة الزيتون ونصف الحائط المتبقي من بيوت أهل أم الدرج، يحييني أحدهم بالعبرية، أنهي طعامي وقهوتي أجمع النفايات وأضعها في كيس وأربطه بحقيبة ظهري في المكان المُعد لذلك. يتدلى كيس النفايات منها بعد أن اضع الحقيبة على ظهري وأمضي ماشيا إلى قمبازه.

في حقل الألغام

أنزل إلى أسفل التلّة حيث كانت معظم بيوت أم الدرج ولم يبقَ منها إلا حائطاً واحداً شامخاً وبيوتًا أخرى بقي منها أنصاف جدران.. الطريق ترابية وآثار المجنزرات التي مرّت للتو واضحة، ومن حولي في كل مكان منشآت من الحديد مثقوبة بالرصاص عشرات أو مئات الثقوب، وبراميل وحاويات من تلك التي تحمّلها السُّفن، تمت هندستها على شكل أكشاك لبيع المأكولات أو مثل غرف على معبر حدود.. صفائح حديدية منتصبة. وليس بعيداً منها دبابة سورية قديمة تحت شجرة زيتون على تلة مصطنعة مائلة على حدّها الأيمن. المكان لا يشبه الكرمل بل يشبه من صنعه وكأن الموت يخيّم عليه.. أسرِِّع خُطايَ، أشعر بالخوف بأن ينفجر شيئا فاتطاير معه في الهواء ولا أعود.

أرى معسكر الجيش من بعيد وقرية القمبازه في ذات الإتجاه. لا أريد أن أصادف اي مجنَّدٍ منهم أو أقترب عن طريق الخطأ من المعسكر فأتعرَّض للمساءلة. 

سُررتُ حين عرفت، على بعد كيلومترين، أن القمبازه على يميني ولن امرَّ بمحاذاة المعسكر.. أصل تلة مصطنعة على جانبها دبابة سورية من غنائم الجيش الإسرائيلي في حروبه مع الجيش السوري. لا أرى أيّ أثر لقرية القمبازه. كل شيء هنا لا يشبه جبل الكرمل.. أنظر جنوباً، أرى رجلاً بزيّ فلسطينيّ يبقّل العكّوب. أتقدّم نحوه أسأله إن كان يعلم أين تقع القمبازه، يدلّني عليها، أشكره وأذهب إلى حيث القمبازه. لا شيء سوى كرم واسع من الزيتون، أتمعن ملياً في أطراف الكرم فأجد مدماكين من بقايا بيت تغطيهما الأعشاب الشائكة، ومن حولي معسكر جيش مساحته هائلة، كان في أحد الأيام حقولاً وبيوتاً للأهل.

أعود من حيث أتيت، لا عودة إلا من ذات المسلك، وفي منتصفه تقابلني سيارة الدفع الرباعي يقودها رجلٌ وإلى جانبه المرأة ذات النظارت الشمسية. غادرا أم الدرج بعد أن استجمّا هناك وربما احدهما تدرَّب على استخدام السّلاح. أشعر بالإرهاق، أجلس، أستريح قليلاً.. إنها الساعة الثالثة بعد الظهر، تتعافى همّتي فأنطلق من جديد، وبعد فترة ليست وجيزة أرى من بعيد صخرتين من الباطون. أتجاوزها، ألتفت خلفي، إنهما الصخرتان ذاتهما اللتان طالعتاني في الصباح وحذرتاني من الدخول إلى المكان الذي أخرج منه الآن.. أبحث عن حاوية مهملات. أجدها. أفك رباط كيس نفاياتي من حقيبة ظهري وألقيه في الحاوية. أغمض عينيّ وأتمنّى لو أني، بلحظة، أحطّ حول ابني وبنتي وزوجتي في بيتنا هناك في ضواحي الناصرة… ولا أنفكّ أفكّر بأبي العلاء المعرّي...

كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة

لمزيد من التفاصيل أنقر هنا
Patreon support button