إتصل بي ابو ربيع منذ قليل وطلب مني انتظاره في الشقة عند الساعة السادسة والنصف مساءً: "عايزك بموضوع ضروري" . انه اليوم الرابع من شهر آب ومن المؤكد أن "الموضوع الضروري" سيكون فحواه طلب ايجار الشهر وايجار الأشهر الثلاثة "المكسورة". ماذا أقول له بعد ساعتين؟ لا مفر من هذا "المَنْفَخ". الحل سيكون بمواجهته بالحقيقة: "ما معي ولا فرنك ابو ربيع" . لكن الحقيقة الوحيدة التي تهم أبو ربيع هي أن "الدولار بـ 8000 وانت مازلت تدفع بالليرة عالـ 1500". وأنا أعلم ذلك ، لكنني مازلت عاطلاً عن العمل .
لا، لن أستطيع مواجهته بهذه النفسية المحطمة، يجب تغيير كيمياء مخّي. تمددت على السرير، وضعت نصف حبّة زانكس فوق لساني، أخذت طلقة الويسكي واشعلت سيجارتي الأخيرة. صار الوقت يمضي ببطء الغيوم الثقيلة العابرة، ومن غير أن أشعر حط عليّ ملاك النوم.
استيقظت بغتة على صوت آذان الفجر، الصلاة خير من النوم. في الخارج عتمة يتشقق منها ضوء النهار بكسل وسط هدوء مريب. أزحت الغطاء عني فتساقطت ألواح زجاج وتكسّرت مليون قطعة حين ارتطمت بالأرض. أفف! كيف صار باب البلكون وزجاجه فوقي، يتلحّفني؟ جسدي غارق كلياً بالعرق. رائحة زنخة تنبعث مني. مني؟ ذهبت لأجرّب حظّي بـ"دوش" لكني وجدت المياه ما تزال مقطوعة. أخذت منشفة ورحت أجفّف جسمي. المنشفة صارت ملطّخة بلون قاتم. أشعلت شمعة، بقع دمي لطّخت المنشفة. أفف.. لابد أني أصبت في مكان ما. ما الذي حدث خلال نومي؟ فتحت باب الشقة ونزلت إلى الشارع.
في الشارع بدت لي بيروت كمدينة اجتاحتها جحافل عمالقة مخمورين. ويبدو أنهم لعبوا في شوارعها مباراة روكبي محطمين شرفات وزجاج الأبنية، وواجهات المحلات، وهم يركضون فوق السيارات ويتقاذفون كرةً عملاقة من منطقة إلى أخرى. نزلت بقرب "حديقة الصنايع" ورحت أمشي مع الدمار. عند منتصف "نزلة سبيرز" وجدت قطعان الكلاب والقطط وأسراب الطيور وبعض التماسيح والكثير من الأفاعي، وكان هناك قرود أيضاً، كلهم يقفون جانب الطريق. وبينما كنت أنظر مشدوهاً بهذا المنظر، لمحت كلباً خرج لتوه عن القطيع واتجه نحوي. لممت حجراً بسرعة ووقفت متأهباً. لكن الكلب فاجأني حين قال لي: "ما تخاف ما رح نعملك شي." ثم تقدم أكثر وهو يهز ذيله ويعيد ترديد: "ما تخاف مافي شي." فقلت له "طب الى اين انتم ذاهبون؟" قال لي بلهجة معاتبة: "هذه الغابة لم تعد صالحة للعيش. هذه الغابة أنتم من صنعها. تحبون الخَضار وتدخنونه يومياً من دون أن تلاحظوا أنه لم يعد هناك أي عرق اخضر فيها. بعدين، نحن يا "مان" ضاقت بنا الحياة بين الحيطان ولم نعد نطيق العيشة بينكم ومعكم. نحن بصدد الهجيج منكم. نمشي مع البحر لعلّنا نجد سبيلاً إلى أفريقيا" . خجلت من الكلب ورميت الحجر من يدي. لم أعرف ماذا أقول لهذا الكلب. وهنا، قال لي "لا تخف منّا تابع سيرك ولا تزعج أي أحد منا رجاءً، بعد أن حدث ما حدث البارحة، لم نعد نريد منكم شيئاً، الله يعينكم ع بعض دعونا نرحل" . ثم عاد لقطيعه. وأنا تابعت المشي، لكني بقيت أفكر بهذا اللبرادور الأسود وبعينيه اللتين بدتا كعيني النبي آدم؛ تعابير وجهه وهو يتكلم مليئة بالحزن كمن سقط وتخلى ويتوق للهجر والعودة.
حين وصلت البلد ارتسمت على وجهي ابتسامة عريضة لكنها لم تكن سعيدة، وعلقت حتى صارت عضلات فكّي تؤلمني من كثرة الابتسام. "سوليدير" مطروحة أمامي غارقة بغبارٍ وخراب. التفتّ إلى واجهات المحلات الفاخرة أتفرج على اخر صيحات الدمار. تابعت سيري متتبعاً آثار الدمار إلى أن بلغتُ نقطة الانفجار. هنا بدا المنظر خريفي "هيروشيمي"؛ وكأن بركاناً انفجر وقذف حوله أطناناً من الفساد، والاستهتار، باصقاً بَطر الحياة الاستهلاكية في وجه المدينة. ثم لاحظت أناساً يبحثون في الركام وسط سحابة غبار علقت بيننا في الجو. كانوا يلملمون قطعاً من بين الحطام، ينفضون عنها الغبار ثم يبصقون عليها ويحاولون لصقها بأجسادهم. نظرت إلى رجل خمسيني يرفع قطعة لحم أمامه، يبصق عليها، ثم يحاول لصقها حتى تركب. وإن لم ينجح، يرمِي بها ويبحث عن قطعة غيرها. ثم أتت امرأة تحمل ذراعاً أمامها وتتفحصها، بدت لي هذه الذراع مألوفة. أني أعرف هذه اليد جيداً. صرخت للمرأة: "تانت شو عم تعملي؟" . أجابتني بصوت خافت: "نلملم شقفنا حبيبي. تعا فتّش، شوف بهالأرض بركي بتلاقي شي خرجك". "شي خرجي؟ ماذا تقصد هذه المرأة؟".
شعرت بالدم جفّ فوق وجهي وصار ينتزع شعيرات لحيتي كلما حاولت انتزاع قطعة منه. تذكرت أن عليّ الإستحمام. هل أذهب لبيت أهلي؟ لا! أهلي هجروا من بيروت بعد ان انتخبوا "أبو الفقير"، وها هم يعيشون غربتهم في عرمون. طيّب بلا نق! أذهب إلى بيت أختي في "الكولا" وأستحم عندها. أدرت ظهري للمرفأ ومشيت باتجاه "الكولا".
حين وصلت شارع بربور وجدت الشباب منتشرين بالكلاشينات والجينزات على الموستيكلات يطلقون النار من الشوارع المتفرعة باتجاه المنطقة المواجهة خلف كورنيش المزرعة. اختبأت مع مجموعة ناس علقوا بالشارع قرب الدكان. لمحت صحافي اعرفه، كان يصوّب ثم يتكتك صوراً. اقتربت منه وسألته: "يا زلمي شو عم تعمل هون؟ شو عم بصير؟" فأجابني: "ليش ما معك خبر؟ اليوم 7 أيار عن اول وجديد" . شو 7 أيار؟ قصدك الإنفجار؟ تركني وذهب يتكتك صوراً لرجل مسلح كان يتحضر لضرب "ب 7" عاد المصوّر وهو يشعل سيجارة وراح يشرح، "عم يوصلنا أخبار إنو الإنفجار فتح ثغرة في الفضاء الزمني المتواصل، وصار كل شي يعيد نفسه. هلق نحن بـ 7 أيار متل منك شايف. من شوي قصف الجيش مخيم عين الحلوة وفي حكي انو البوارج الحربية شوهدت تحترق. وانتبه ممكن تنفجر سيارة ويطير الموكب بعد شوي" . تركت الصحافي وقطعت الشارع بحذر. وعندما وصلت التقاطع، أتاني رشق رصاص من طريق الجديدة وحط فوق رأسي في حائط المبنى من أمامي. اشتد خفقان قلبي وأظن أنني "خريت تحتي"! أو بالاحرى شعرت أن فرائصي ارتعدت لأول مرة بحياتي من هول اللحظة المروعة. رميت بنفسي بين السيارات ورحت أزحف باتجاه طلعة برج أبو حيدر.
عندما وصلت محطة بدران، قابلني حاجز لفرع المعلومات، فصرخ أحد العناصر، "لوين رايح؟ طلّع هويتك وتعا لعندي". اقتربت من الحاجز وقلت له ناسيها بالبيت يا وطن بدي اوصل عـ "الكولا" عند بيت اختي واتحمم. ما عندي مي بالبيت" . فقال العنصر: "إنت من وين ولاه؟! شو جنسيتك؟ لبناني؟". قلت له: "إنو إيه وطن أنا من بيروت من هون من المنطقة" ". وليش عامل بحالك هيك؟ ما مبيّن عليك لبناني. فكرناك سوري. خلص روح ع الكولا دغري. فلّ من هون".
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة