مُزْنة شابة عمرها غير معروف ولكنّها حتى الآن شابة وستبقى شابة حتى الانفجار القادم. عندها، تتقدّم في العمر أو تبقى شابة… غصبًا عنها في الحالتين.

مزنة تقف خلف ماكينة القهوة تعصر فنجان اكسبرسو كبسة ونص للشاب عبود الذي وصل إلى شاتيلا للتو عائدًا من خلف الحدود. "تفضل معلم". ناولته فنجان القهوة ووقفت أمامه تضع يديها على خاصرتيها وتنظر إليه بعينين متسائلة. "ما نسيتِك ست مزنة،" اجابها عبود مطمئنًا، وسحب سيجارة سيدرز طويلة، دكها طويلًا ثم نظر إلى وجهها الأسمر المتجهم وتابع: "ستنا، مشروعك رح يكلفك مية دولار عالراس. وهاي تسعيرة خاص ناص الِك." كانت مزنة طلبت منه الاسبوع الماضي ان يحدد لها موعدًا ويعطيها تسعيرة للعبور بثلاثة من أصحابها إلى خلف الحدود، إلى الجليل، والعودة بهم بعد ثلاثة أيام. هزت له رأسها وطلبت منه أن يمهلها "أَكَم يوم" كي يتسنى لها جمع الدولارات.

 تسلّمت مزنة بسطة القهوة محل أبيها في مخيم شاتيلا ببيروت بعد أن أصابه فالج قبل عشر سنوات، وصارت هي المعيلة لوالديها. لكنها بعد معركة سيف القدس وهبّة الشيخ جراح وباب العمود، صارت تسعى مع بعض الأصحاب من مختلف المخيمات للتحضير لوثبة جماعية والعودة إلى الأرض الأم. ولذا، طلب منها مالك منذ فترة أن تُفعِّل شبكة معارفها وترتّب موضوع العبور لأن المخطط الذي يعمل عليه مع ماجد ورفاق آخرين حان تنفيذه. مالك، في الثالثة والثلاثين، هو أحد الهاكرز المؤسسين لما يُعرف بجيش العودة الالكتروني. ولد وترعرع في كنف المخيم ولديه محل تصليح موبايلات بالقرب من قهوة مزنة. حين انهار الوضع الاقتصادي في لبنان راح يعمل مع صديقه الانتيم ماجد على تدريب أولاد وبنات المخيم على كتابة الكود كمقدمة لتمكينهم من الانخراط في الصناعات الذكية. لكنه انهوس مؤخرًا بكتابة كود رقمي صمَمه لاختراع  جهاز للتنبّؤ. وراح يحكي عنه كحاجة ووسيلة قد تمكَن الفلسطينيين في مخيماتهم من الدفاع والهجوم في آن.

حدث تطورٌ عقب انفجار ٤ آب ٢٠٢٠، واهتزّت نفوس الفلسطينيين في لبنان، فأصابهم قنوط غرائزي طارئ لفت نظر مالك، خصوصًا، بعد أن شعر ورفاقه بنوع من البارانويا تتحكم في المزاج العام في المخيمات. وكثر حديث الناس عن الانفجار الآتي الأعظم. وغصت الصدور بشعور جمعي كان أشبه بذلك الذي عصف بهم في صبرا وشاتيلا بنهاية صيف ١٩٨٢. وقال البعض انه اشبه بذلك الشعور الغامض الذي ضرب الأمعاء وحرق النفوس في مخيم البرج سنة ١٩٨٤. وأصر كثيرون على أن تأثيرات انفجار ٤ آب استفزت الذعر نفسه الذي دب في القلوب عند بداية صيف  ٢٠٠٧ وخلال تدمير مخيم نهر البارد وتشريد أهله. 

 حين انتهى من الكتابة، لقّم مالك الكود بداتا تحتوي على تاريخ لبنان في آخر مئة عام، ثم ربطه وشبّك الخوارزميات بجميع الاخبار اليومية المنتشرة على الانترنت. فأظهر جهاز التنبؤ سلسلة فرضيات تنتشر على محطات بين المستقبل القريب والمستقبل البعيد. كان من بين الكوارث التي أنذر بها في المستقبل القريب الفرضيات التالية: الموت الجماعي جوعًا في العديد من مناطق الأطراف، ويأتي من البحر غودزيلا رأسمالي إمبريالي (أبيض) يقتطع مناطق خضراء بين ABC ألاشرفية - فردان - ضبية، في بيروت الكبرى، ويهيمن على محيطه من خلال تطبيق سياسات خارجية تعتمد على إزهاق الأرواح الشابة لتحقيق الأرباح. واستشرف الجهاز في المستقبل البعيد أن مع حلول عام ٢٠٣٠ سيضرب بيروت زلزال يشطر وسط المدينة والكورنيش البحري ويرمي بهما في البحر، ليصبح شارع الحمرا الواجهة البحرية وخط الساحل الجديد.

لكنْ... مع مرور الأيام، وإثر مواجهات قتالية متنقلة سريعة وخطيرة، انطلق زمور الانذار في جهاز التنبؤ وتبقّعت شاشة الكومبيوتر بإشارات حمراء ومّاضة، إذ رصد فتنة مذهبية في محيط المخيم يبدو انها استوت وباتت جاهزة للتفجير في أي لحظة. كان هذا الإنذار الطارئ هو ما جعل مالك يطلب من مزنة أن تجد سبيلًا إلى الداخل بأسرع وقت. وكان اتخذ الرفاق القرار بعد أن تبين أن موقع مخيم شاتيلا سيكون وسط المعمعة تمامًا، بين منطقتين تُهيَّئان للاشتعال عبر حُقَن مضاعفة الجرعات من مؤجّجات الفتنة المذهبية. فإذا انفجرت الفتنة أدّت الى ثوران بركاني وزلزالي يبيد أهل المخيم مرة جديدة. ولدرء مغبة هذا الاحتمال المدمّر، اسرع مالك بربط الجانب الخلفي لجهاز التنبؤ بصاعق الفتنة المذهبية التي ستؤدي الى انفجار أهلي حول المخيّم، ووجّه إشاراته لاسلكيًا إلى مستوطنات الاحتلال في فلسطين، بدقة متناهية. 

 بعد أن جمعت مزنة ٣٠٠ دولار، التقاها عبود في المكان المعهود فأرسلت بصحبته من شاتيلا كلًا من سليم فانون وأحمد نينجا، ومن مخيم مارالياس مايا المغربي. عمل مالك على تدريب الأعضاء الثلاثة على خريطة زرع هولوغرامات مبرمجة (عبارة عن مَشاهد ثلاثية الأبعاد خادعة) في الأماكن العامة في محيط المستوطنات الحدودية كمرحلة أولى. كان هدف مالك وباقي المجموعة نقل الانفجار القادم عبر بث مباشر لما سيدور في المخيم ومحيطه إلى الأراضي المحتلّة. فإذا انفجر الوضع في لبنان لا بد أن ينفجر أيضًا هناك وفي الوقت ذاته. ومن تحت الأرض، يخرج أمام المستوطنين مشاهد هولوغرامية لأناس يطاردونهم، تحاكي مشاهد الانفجار الأهلي الذي سيعيشه الفلسطينيون في المخيم. ومن هول البلبلة، تتأزّم الأوضاع في المستوطنات بدءًا بتلك الحدودية لتتوغّل تباعًا إلى مستوطنات الداخل.

غير أن الانفجار الذي لم تستطع الخوارزميات الذكية التنبؤ به أتى من الماضي، من تحت أرض المخيم. حصل ذلك في يوم ١٧ أيلول ٢٠٢١ مباشرة بعد صلاة الجمعة. وبينما كان نوع من الهدوء الكوروني المريب يتسلّل إلى قلب المخيم، شعر سكان المباني المشيّدة من عيدان كبريت هزيلة بهزة عنيفة أسقطت الصحون عن الرفوف، وحل الوجوم. وتحت وطأة الصمت المطبق، انقطعت الكهرباء فارتعشت القلوب: "أعوذ بالله من غضب الله،" قالوا في فزعتهم. فجأة، تكررت الهزة بعنف وكرّت سبحة الزلازل تُخرج ما في باطن الأرض. ثم سُمعت انفجارات متتالية بدت كرعود تقرع من باطن المخيم. وفي غضون لحظات، انفجرت الشوارع وخسف الاسفلت الركيك فخرج من قلب الرمال الحمراء عظام…

وحين انفلقت الأرض بصقت حممًا من عظام راحت تتفّ أطنانًا من القهر الدفين تحت طرقات المخيم، ومن خلف الاسطبلات، ومن جهة أرض جلول، ومن تحت ملعب كرة القدم، ومن تحت سوق الخضار في صبرا. ولكن، بعد أن استقرّت العظام على سطح الأرض مبعثرة في كل مكان، عادت تتحرّك على مرأى من الأهالي. وراحت كل عظمة تنجذب الى اخوتها، ثم بدأت العظام تستعيد أشكال أصحابها، معيدة تشكيل أجسام الأطفال والرجال والنساء الذين قضوا في المجزرة الرهيبة. فاستقامت الهياكل العظمية وراحت ترتصف جنبًا إلى جنب. ثم طلعت في مسيرة منذِرةً: "يا فلسطينيي اسمعونا مليح، فش اشي الكن هون غير الموت. ولا عاد في متسع في باطن هاد الحبس لدفن عظام المجزرة الجاية. حان موعد العودة إلى فلسطين". 

 رأت مزنة، وهي تقف بقرب مالك امام بسطة القهوة، هيكلًا ممشوق القامة يتقدم الصفوف وسط الشارع. وعرفت أنه لشيخ المخيم حين لمحت لحيته الفضية ترفرف مع الريح. ثم توقف أمام الحشود، نظر الى أعلى، استدار نحو الجنوب، عبّأ صدره بالهواء ثم زعق، فخرجت من فمه حمم من عظام وسكاكين ورصاص وبنادق... وأخذ يصرخ بصوت صمّ آذان الأحياء من حوله: "يا قسام! يا محمد الضيف! وعدت بألاّ تتخلى عن الشتات. أين وعدك؟ اقصف يا قسام! بالروح بالدم نعود إلى فلسطين

ومُزنة الشابة أصبحت بارعة في كتابة الكود وصنع القهوة، وفي تدبير انتقال أهالي المخيّمات من وإلى الأراضي المحتلة مع عبود. وهي ما زالت شابة تنتظر الانفجار القادم ليأذن لها بأن تبقى شابة أو تتقدّم في العمر.

كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة

لمزيد من التفاصيل أنقر هنا
Patreon support button