أثارت إليزابيث أنسكومب في كتابها "intention" مسألة ترابط أفعال عديدة، الواحد منها بالآخر. يمكن صياغة المسألة كالتّالي: إذا أردت أن تستحمّ، كيف يكون فعل "التعرّي"، وفعل "فتح حنفيّة المياه" مترابطين؟ كان جوابها أنّ الأمر يتعلّق بكيانين متماثلين، فالتعرّي، وفتح الحنفيّة، هما عمل واحد بعينه، يمكن أن ينقسم إلى أفعال متعدّدة. أن نولي هذه المسألة دورًا مركزيّا بوصفها عنصرًا جديّا يشكّل أنطولوجية العالم، يعني بات فهم الحياة على أنها "سلوك موت" أو "فعل موت" أمرًا ممكنًا. وبات ممكنًا - وهذه جيّدة لمحبّي "الدراما" - أن تجيب عقلانيّا بـ "أنا أموت" على سؤال "ماذا تفعل؟". ولذلك شاع في الأدب الفرنسي (وأنا لا أقرأه بالفرنسيّة لأن فرنسيّتي رديئة) أن الحياة مرادفة للتحلّل، والإغفال الذي تضيفه تعقيداتها على هذا الجوهر، ناشئ عن ذعر الإنسان من حقيقة الموت، لغموضه. هذه النّظرة تكثّف أهميّة فعل "كتابة وصيّة"، وعلى أنه سلوك موت أيضا، إلّا أنه، ومن بين مجموعة قليلة من الأفعال، يبقى أثره لمدّةٍ ما، بعد الموت.
إن الإرباك المكره الّذي يجتاح كلّ من يجلس كي يكتب وصيّته يبقى ذا حضور قويّ جدّا، يحكم قبضته بقوّة على كلّ الكلمات المكتوبة. والجدير بالذّكر، أنّ كلّ العثرات والمخاطر الّتي ترافق عمليّة صياغة وصيّة ترجع بشكل مباشر، أو غير مباشر، إلى ميتافيزيقا الحياة والموت بالنّسبة للكاتب. لكنّنا هنا، لا نبحث عن ميتافيزيقا يونيفيرساليّة، هنا في الجحيم، لأن كتابة وصيّة هنا لا يتطلّب من الكاتب اللّهث وراء معاني العدل والاستحقاق والفضيلة، هذه مهنة سكّان الدّرجات الأعلى، أمّا نحن، المرغَمون على الاختيار من بين سموم مرعبة، المتورّطون في جريمة عيش، فيكفي أن نجيب على سؤال معرفة أيّ من أشكال السّلوك المتوفّرة لنا، هي أقلّ الأشكال خطرا، كي نوصي غيرنا بها. هذا هو الرّعب الّذي لن نكون قادرين على تجنّبه بالتاكيد، بل أنّ تجنّبه متعذّر بذاته. ففي الأساس تتضمّن الوصايا دفعًا لنزوع القارئين نحو الأفضل على صعيد السّلوك أو المشاعر، لكنّ هذا التّضمين، هنا، يأتي منطويًا على تناقض غامض، محفور فيه، لمَ؟ لأن ما من أفضل.
قد يتطلّب منك فعل كتابة وصيّة، شجاعة خاصّة، لكن ثمّة ما هو أكثر تعقيدًا، أسمّيه "الفرادة"، أي الاستقلال في الخلق، لأن الموت، وعلى رغم أنّه حالة متكرّرة، يبقى حالة فريدة. ولذلك، ينبغي أن تدنو مضامين الوصيّة من فرادة الموت. الفرادة هنا، بما أنّني أكتب من الجحيم، تأتي متناقضة أيضًا، الأمر الذي يجعلها مربِكة، دائما تحثّ على ارتكاب الأخطاء، لأنّ الجميع مفتقر إلى الحاجات المتفرّعة عن كونهم بشرًا فقط، متشاركين في الخصوصيّات، والاشتراك في الخصوصيّات يتزامل مع الاشتراك في الحاجات، والاشتراك في الحاجات يتزامل مع الاشتراك في المطالب، والاشتراك في المطالب في ظروف لا تنفكّ تعلن عدم أهليّة الواقع للعيش تعني وصايا متشابهة. إذا؟ ما من فرادة أيضا.
ما يميّز وصايا الأحياء الأموات اليائسين هو أنّهم باتوا على ألفة مع الموت. والدخول في إطار الوصيّة، الّتي ترتبط دائما بالموت، تقوده أو ترشده فكرتنا عن الموت. يفرّق ديفيد هيوم بين الإدراك الحسّي المباشر، الّذي تختبره حواسنا، مثل برودة الماء، أو صلابة الحجر، أو سخونة النّار، وبين الفكرة، الّتي لا تكون سوى إيقاظًا باهتًا لذلك الإدراك، ولكنّها (الفكرة) لن تعلو الإدراك الحسّيّ المباشر في حيويّته. هي تأتي أو تجيء تبعًا للإدراك الحسّي وبشكل مخفّف، أو قل بروح خافتة. هكذا تتشكّل فكرتنا عن الموت. إذا، ما من أحد خطّت يداه وصيّته إلّا وكانت فكرته عن الموت أبهت من اختباره. ولكنّنا هنا، هنا في الجحيم، مرّة أخرى، وبما أنّنا أقرب إلى الموت من قاطني الدّرجات الأعلى، فإن شحوبة فكرة الموت تظلّ حيويّة في أذهاننا، لأننا اختبرنا، على الأقلّ مرّة واحدة، مسبّبات مباشرة له. وعلاوة على ذلك، إنّنا نعيش باستمرار، حالة انحطاط الرّوح. ثمّة من يقول أن معنى قتامة العالم، لم يُفهم إلّا في دول العالم الثّالث.
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة