يراودني شعور، أنّنا -النّاس- هنا نشكّل جنسًا على حدة، جنسًا أكثر إحباطًا وقلقًا من الآخرين، وعلى وجه الخصوص، أكثر رغبة في الموت. نميل إلى التّفكير من خلال مصطلحات متطرّفة تترنّح بين الغضب والحزن، دون المرور بالحقيقة. والمؤسف أنّنا لا نستطيع الاعتراض على هذه الصّورة الفظيعة القاتمة، فالتّمرّد يكون بالصّراخ أو البكاء، في حين أنّنا نملك رئتين خاملتين. واقعنا هذا هذيان ماجن منغمس في البؤس، لا يكاد يُعاش. أتساءل مرارا، لو كان شوبنهاور هنا، كيف كان سيسوّغ هذا الشّقاء فكريّا، أردّد هذه المقولة كثيرا، لكنّها وعلى الرّغم من واقعيّتها، غدت لازمةً مضجرة. ثمّ لا طلاق بيننا وبين كلّ هذا، حتّى في أكثر الفترات صعوبةً وعناءً، يقضم رؤساؤنا كلّ الخير ونكتفي نحن بتلقّط "البطاطا الفاسدة"، علاقتنا بأسيادنا تشبه هذه الممارسة الشّائعة في فرنسا حيث يترك المزارعون حبّات البطاطا الّتي تَتلف ليلتقطها الأشخاص المحتاجون. إذن كلّ شيء هنا يولّد أحد الشعورين، الذّنب، "نحن لم نفعل شيئا"، أو الكسل "كان ذلك فظيعا، لكن ليس هناك ما يمكن فعله"، وليس في واردي القول بأنه يجب أن نشيح أبصارنا عن الحلول ونجهد أنفسنا في التّرويج للاستسلام، ولكنّني أحاول أن أحوّل واقعا تفتك به التراجيديا، إلى عبارات أكثر تماسكاً منه.
هكذا نغرق بأمواج سوداء، وتتحوّل يوميّاتنا إلى مسبّب لانكماش رهيب للوعي بالحاضر، ننبذه، نمارس القطيعة الجذريّة معه، فالحاضر ليس سوى أمكنة معتمة وخطرة، تتراكم فيها ظلمات دون قعر، فنختار الهروب، لكن إلى أين؟ نحن لا نملك المستقبل، ولا أيّ تصوّر عنه، حتّى إذا اعتددنا بما لدينا من معطيات نتنبّأ على أساسها، فإن كلّ هذا يبقى كلامًا يزاوج بين الذّات وخارجها، في حين أنّ الحقيقة هي الخارج الّذي لا يتأثّر بأن أكون المدرِك له، أو تكون أنت أو صديقك المدرِكَيْن له. ولكنّ النّفور من الحاضر يجب أن ينتقل بنا إلى مرحلة زمنيّة أخرى غيره، على الأقلّ هذا ما أعرفه عن ردّات فعل العقل، وهذا ما يسمّى "النّكوص" في علم النّفس التّحليلي، ولأنّنا لا نعرف إلّا الماضي كبديل للحاضر، يصبح العقل بأسره مهووسًا بفكرة واحدة، تكون بمنزلة مخرج وحيد، وهي العودة إلى الماضي، أي إلى مرحلة سابقة، عرفناها أقلّ انغلاقا، مليئة بالأشياء الجاذبة، حقبة لا تعاسة فيها. يااااه، لا تعاسة فيها؟ لعلّها حقبة في حياة هارون الرّشيد ربّما؟ لكن لم قد يملك من يلتهم كلّ هذا الحزن، ماضيًا بهذا البياض حتى يرغَبه؟ في الواقع، إنّ الماضي قد لا يكون ورديًّا هكذا، ولكنّها حيَل العقل، إنّ للعقل سطوة على الذكريات الّتي يزخر بها لاوعينا، أكثر تسلّطاً ممّا تعتقد، إنّ تذكّر الوقائع لن يكون موضوعيّا في أغلب المرّات، سيعبث العقل بها ويدخل تعديلاته عليها. إنّ التذكّر تابع لما خبره لحمك ودمك، أي لتجربتك الشّخصيّة، هذه خلاصةُ واحدةٍ من الدراسات الّتي أجراها عالم النّفس "دانيال كانمان"، لكنّ الماضي إذا ما كان الكهف الأخير للهروب، فإنّ تصوّرنا له سيتزاوج مع نزوعنا لتصديق أنّنا كنّا في حالة استقرار مريح، يكفي أن تملك لحظة واحدة عشتها راضياً عمّا أحاط بك، حتّى يمسك بها عقلك ، ويعمّمَها على مرحلة برمّتها، هذه المرحلة الّتي ستلجئك اليوم.
ولأنّ سادتنا "في كلّ عرس لهم قرص"، وما من موضع مهيّأ للخداع إلّا ويستغلّونه، فأنت ستجد قذارتهم هنا أيضا. ونحن في كلّ مرّة، وبكلّ بلاهة نسقط في ألعابهم الخادعة. إنّ المرء حين يقرّر تقديم نفسه كمخلّص للنّاس، يتوجّب عليه العثور على مبرّرات نظريّة يقدّمها للجمهور في سبيل قبولهم به، والمبررّات هنا، لن تكون "برهانيّة" كما يريدها الفلاسفة، و"الأنكى من هيك"، فإنّها ليست صادقة بالضّرورة، قد تكون مجرّد كثبان من الأباطيل لا نفع فيها إلّا إذا ما قُدّمت بأساليب مغرية. إنّ التّعامل مع الجمهور دقيق لأنّ أدواته فيها من التّعرّجات ما يحتاج إلى الدّربة، هذه الأدوات الّتي تجعل من المفاهيم مفاهيمَ قابلة للتّبليغ، مهما كانت قيمة هذه المفاهيم معرفيّا، لا يهم، فالمهم فقط أن تكون مُرضِية. نحن نعيش اليوم التضخّم المتزايد للحاجات، من غير توقّف، وبالرّغم من أنّنا نفتقر لأدنى مقوّمات الحياة، إلّا أن المقوّمات هذه "قزم" بالقياس لحاجاتنا، والحاجة باب الخطيب، منه يدخل، ثمّ يلجأ للطّرق الملتوية. نحن نمقت الواقع، ونفضّل الماضي على المستقبل، فيجيء الخطيب الّذي لا يلبث أن يتعاطف مع علم النّفس، فلا يقتصر في أدائه على وعدنا بالعودة لماضينا الجميل، هو يعرف أنّنا في مسيس الاحتياج للهروب، بل يخلق لنا ماضيًا ملؤه الرّفاه. ولكنّني أسائل نفسي مرارًا، لماذا يحرص هؤلاء حرصاً مطلقاً على تبسيط كلّ شيء، وعلى رد كافة الظواهر إلى سبب واحد؟ إنّه لمؤسف حقّا اختزال الحلول في الرّجوع إلى الوراء.
هكذا يسلبنا حكّامنا أنطولوجيتنا المختصّة بالحاضر، فمن جهة نعيش واقعاً آيلاً باستمراريّة للتّدهور، ومن جهة أخرى، يحفّز هؤلاء رغبتنا في العودة إلى ماض يرسمونه في خطابات مضلّلة. أنطولوجيا الحاضر هذه الّتي ينبغي لها أن تستند على موقفنا من الحاضر، نجدها مستندة إلى أضغاث أحلام نقرأها أملا بالرّجوع في حقبات الزّمن. هكذا أيضا نفقد الذهنيّة المفكّرة في المضامين التحرّرية، في أبعادها ورهاناتها، فلا تكون الذات ثائرة وصائرة نحو الحريّة، بل خاضعة، مكبّلة بمأساويّة اليوم، ترغب بالأمس هروباً وتفلّتا، فنصير "ذواتاً مكبّلة"، نعيش "واقعاً بائسا". إنّ من سمات السلطة التنوّعُ والاختراق، أي أنها تخترق الممارسات والخطابات، وممارساتها تقترن بالقدرة على ادعاء الحقيقة. هنا يكتمل المشهد، ونعلق في ثنائيّة أحد طرفيها خطر، والآخر مرهق. نقف أمام تلقّف حقيقتهم هذه، والمراهنة على صدق الكذّاب -والتناقض في الجملة ليس وليد ذهني بل وليد الواقع-، أو أنّنا مرغمون على مقاومة نظام الحقيقة الّذي تنتجه السّلطة، وتحمّل عناء هذه المهمة الشاقّة، مهمّة توليد "حقيقتنا".مهمّة بلورة صياغاتنا نحن للحريّة، من أجل إعادة خلق "إنسان جديد"، يعمل على فضح الضوابط والحدود، لفرض مواجهة استراتيجيات السّلطة بغاية تجاوزها نحو الحريّة، على الذّات، أقصد ممارسات السلطة الّتي لا يمكن تحليلها إلا في مجال الاستلاب.
إنّ التشتّت في ما كتبته صورة عمّا تحتويه أذهاننا. ما كُتب ليس مهمّا، أعد القراءة إن لم تجده كذلك. كما أنّ هذا ليس كلّ ما ينبغي أن يقال، ولكن، كما أنّني أجد دائمًا طرقًا جديدة كي أقول، فلا شيء يكون أبدا كلّ ما ينبغي قوله.
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة