انتهت المظاهرة، وعدت إلى منزلك، غاضبا، خائب الأمل على نحو مثير للشّفقة. كانت الأخبار التعيسة قد وصلت سلفًا، فشل آخر مُضاف، وكنتَ من فرط أوجاعك لا تريد أن تصدّق أن حنجرتك قد خُلعت مرّة أخرى واستُبدلت بالصّمت المقيت. تيقظتَ على: انكشاف مريع لزيف ثبات سعر صرف الاستقرار، جرثومة تضاعف انقباضة صدرك وتجرّك إلى الموت الّذي تعرفه جيّدا، ثم وفي مشهد سورياليّ عنيف، إنفجار قنبلة نوويّة في بطن العاصمة. ولم تستطع، كما في كلّ مرّة، أن تخفي المرارة والحزن والمزاج المتعكّر. إنّ هذا صراحةَ، أمر مضن بالنّسبة لشاب في عمرك، يريد العيش بأريحيّة فقط، لكنّك، كما ترى، بتّ تراوغ فقدان الأمل كالبهلوان.
إنّك تمرّ بمرحلة من الاضطراب الهائج، تترنّح نفسيّك وينقطع توازنك الذّهنيّ. أصيبت قدرتك على تمييز الواقع، والعطب في هذه الحالة في الواقع لا في ذهنك، وعيك مضطرب، وذاكرتك الّتي كانت تحمل الكثير قد شُلّت، ولم تعد تحتفظ إلّا بالخيبات.
أخشى أن أكون قد أسأت إلى اهتمامك، ذلك أنّك، في نهاية الأمر، مهتمّ بمعالجة الجنون الّذي أصابك بعد كلّ ما اختبرته في هذه القرية المسماة زورًا سويسرا الشرق. لكن كما تعلم، إنّ على الإنسان أن يناضل من أجل صحّته الذّهنيّة والنّفسيّة، وهذا لا يجوز بالاستعراض اللغوي فقط.
لست هنا كي أتلبّس دور منظمة الأمم المتّحدة، ثم أصوغ برنامجًا لاستهداف اعتلالك النّفسي بسذاجة كبرامج استهداف الفقر والاضطرابات النفسانية الّتي تعلنها ال"يو إن"، لأن المسخ في برامجها بيّن من عناوينها، برنامج للاستهداف المباشر لكذا، وكأنّ كذا يأتي دونما أسباب، هذه طريقتهم في التعمية، وأنا هنا لأتجاوزها، لأن ماذا يعني، عمليّا، أن أدفن الاضطراب، وأُبقي على الأسباب المولّدة له؟
اسمع يا صديقي، ينتمي الإنسان، في الأصل، إلى محدّدات اجتماعيّة عضوية متنوّعة، كالعائلة، والطبقة، والأمة، وغيرها، ويتعلّق تحقيق ذاته بهذه العلاقات، ضمن هذه العلاقات. إنّ تركة الأوّلين الذين صاغوا دساتير هذه البلاد، في الجمهورية الأولى والثانية على حد سواء، كانت بتر حبائل الشبكة الإجتماعية هذه، وإذا كانت الدساتير والقوانين تلعب دورًا هامًّا في إنتاج العلاقات الاجتماعيّة، فإن دساتيرنا عزلت إنساننا وحرّرته من علاقاته الضرورية، ووضعته في موقع أحادي مباشر مع الطّائفة بوصفها مرجعه الوحيد. هذا ما يعني تدمير المجتمع وتنصيب الطائفة بديلًا عنه. العيب في هذا، ليس اختزال علاقات الإنسان الاجتماعيّة الضروريّة في علاقة واحدة فحسب، بل في نقطة انبثاق القرار المرتبطة حصرًا وبتفرد حسب مزاج زعماء الطوائف الغرينغوز، ما يجعل من كلّ المنتمين إلى الطائفة بمنزلة الرّجل الواحد التابع، فتصير العلاقة الاجتماعية الوحيدة الّتي أبقت عليها، فارغة، تجعل من الإنسان، ذرّة مجتزأة مَلغيّة، منقطعة عن محيطها، وبالتّالي، فردانيّة إجتماعيّة في صلبها، أو قل، عقد اجتماعيّ يجعل من الشّخص، كما يعبّر روسّو، فردا مسحوقا من قبل المجتمع المطلق، وفي الحالة هنا، الطائفة.
وللحديث عن البلاد التي حملت همها في المظاهرات، يا صديقي، تتمّة. إسمع، تكوّن الوطن من مجموعات متفرّقة، كلّها في جوهرها، تمظهر لشكل واحد من العلاقات الاجتماعيّة، لكنّها تحمل أيديولوجيّات متباينة، تسعى كلّ واحدة منها للتوسّع، بهدف الاستحواذ على الفائض الاجتماعي، هذا يفسّر الشّعور المستمر بالمنافسة السلبيّة بين الطوائف، أو كما يسمّونه "التّهديد الوجوديّ" (ما رأيك بنغمة "المسيحية خايفين يا خيي؟" وإذا لم تعجبك فخُذ هذه، "إن أهل السنّة مستضعفون" وما يتولّد عنه من اشتباك ميكانيكي وهميّ يزيد من الضغط على ذهنيّة الذرّات المكوّنة للصورة الكبرى.
لقد تزاوج هذا النّموذج الاجتماعي مع تركيبة اقتصاديّة تنتج زومبيّات تجد في الاستهلاك حاجة جوهريّة، تعيش للحفاظ على نمط يعلو قدرتها الشّرائيّة، وينبغي أن تثبت، كلّ يوم، أنّها تمتلك أهليّة القيام بممارساتها "المصروعة طبقيّا"، وإلا وقعت في العيب الاجتماعيّ، وترفدها في مهمّتها هذه البنوك، فيعيش النّاس ثنائية إضافيّة من الإكراهات: الرغبة في تثبيت صورة القدرة اللامتناهية على الاستهلاك من جهة، والارتهان لأرباب المال، والانشغال بتأمين دفعات سداد القروض من جهة أخرى، وما تلبث هذه الإكراهات أن تستحيل اضطرابات نفسيّة مقلقة.
هذا كلّه، وإن كنت ترى فيه تفسيرًا كافيًّا، إلّا أنه لا يعدو كونه مزق من مسبّبات الاضطرابات الّتي نختبرها، أنا هنا لأخبرك فقط، أن جواز سفرك الأزرق هذا، مساوٍ لشهادة طبيّة تثبت اعتلالك النّفسيّ، اذهب الآن واطلب استشارة من صديقي پول مخلوف، سيفتح يديه ويقول لك: "وات كان يو دو؟!" عندها، ستدرك معنى أن تعيش مثل سيزيف، في قلب التّهلكة، دون أن تملك القدرة، ربّما، على فعل شيء.
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة