المشكلة الحقيقيّة كما أفهمها ليست في الأزمة الّتي يعاني منها اللّبنانيّون نفسها، بل في كيفيّة إدارتها، في كيفيّة التّعامل مع واقع الاصطدام بتعقيدات أنتجتها خيارات الحكومات المتعاقبة.
في البداية، لا بدّ من معرفة أنّ هذه التعقيدات، لا تعدو كونها نتائج ضروريّة تمخّضت عنها التّناقضات الّتي أرستها قوى السّلطة في قلب النّموذج اللبنانيّ، عبر السّياسات الّتي تفرض إعادة هيكلةٍ للبنية الاجتماعيّة وتجري تحويلاً فيها، أي تفرض إنتاج علاقات اجتماعيّة جديدة. فهمنا للأزمة بهذه الطّريقة يفضي بنا إلى إدراك حقيقة أنّ الأزمة الّتي نعيشها هي منتهى أخير حملتنا إليه السّياسات المنتقاة.
دعنا نثق بهذا النّوع من التّفسيرات الّذي يستلهم في طيّاته من إرث كارل ماركس الثّقيل، هذا أنّ ماركس يعطيك خبرة تاريخيّة في قراءة الأحداث التّاريخيّة، وليس الحدثُ التّاريخي ما تضجّ به القنوات الإخبارية بالضّرورة، بل الحدث الّذي يفرض إنتاج علاقات اجتماعيّة لم يكن لها صورة مماثلة في السّابق، كما أنْ ثمّة سبب آخر للتمسّك بمنهج ماركس، ألا وهو أنّه يهبنا القدرة على فهم القوانين أو الأنماط الّتي تسير الأحداث وفقا لها، بالتّالي القدرة على "التّنبّؤ" بأنّ أمورا معيّنة سوف تحدث إذا ما تحقّقت شروط معيّنة. وإذا أردنا أن نستبدل هذا المنهج بمنهج أكثر نضجًا، وأكثر براغماتيّة، فلا بدّ من إضافة مبدأ واحد فقط على بداهته، وهو دخالة المعرفة الإنسانيّة في سير الأحداث وتعديلها، والقبولُ به يعني أنّه صار من الممكن الآن أن أدّعي، وآمل أن يكون إدعائي مسوّغا، أنّه بات من الممكن "فهم الظواهر"، و"التّدخّل العملي فيها"، وهنا نكون قد وقعنا على إكتشاف مثير للاهتمام، وهو أنّ أولئك الّذين يتكلّمون عن امتناع حلحلة الأزمة، إنّما يريدون أن يضلّلونا، وأنّ هؤلاء نفسهم يتوارون خلف هذه الحجّة لتبرير قصور أفهامهم، إذ أن الأدوات الّتي نسجناها في الأسطر الماضية، تجعل - وعلى عكس إدعاءات هؤلاء- من إيجاد الحلّ أمراً ممكنا.
نصل إلى لفظ "الحلّ"، وأنا لا أريد مناقشة الحلول أو الإجراءات الّتي يمكن اللجوء إليها، بل، أريد إخضاع لفظ "الحلّ" نفسه لمناقشة من جهة محدّدة، هذه الجهة هي "الغاية"، لأنّ الحلّ لا يمكن أن يتشكّل دون لحاظ الغاية منه، والقول أنّ الحلّ لا يكون غاية ذاتية، أي لا نطلبه لذاته، قول صحيح، إذ أنّ الحلّ لا يكون إلّا آليًّا، نطلبه لغيره، أي نطلبه لغاية محدّدة، والّتي بالبداهة، ستكون -على أسوأ تقدير- "تخفيف وقع الأزمة عن صدور فئة معيّنة"، فمن تكون هذه الفئة؟ هذه الفئة إمّا أن تكون القلّة الحاكمة، أو "الغالبيّة العظمى" من النّاس من أصحاب الدّخل المتوسّط، وصغار الكسبة. وأنا بانحيازي للفقراء، أميل للجزم بأنّ ثمّة أولويّة جليّة لهم، ولكنّ الميل العاطفي لا يمكن أن يكون دليلا معتبرا، بل ويعاب على من يقدّم خلاصاته دون إيراد حجج عليها، لذا يتوجّب عليّ تقديم مسوّغ منطقيّ يبرر انحيازي هذا. إنّ الموقف من القضيّة هذه، هو فرع موقفنا من العلاقة الّتي تربط الانسان بسائر البشر، فالاعتقاد بأن الانسان مجرّد فرد محاط بمجموعة أخرى من الأفراد، لا تترتّب على وجودهم معا أية علاقات استكماليّة، يدفعنا لموافقة الاعتقاد القائل بأن ما على الانسان إلا أن يجلب النّفع لنفسه، ويدفع الضرر عنها، وهذا اعتقاد يبرّر حرص الحكّام على مصالحهم فقط. وفي قبال هذا الاعتقاد، يقدّم أبو نصر الفارابي نظرة مختلفة، جريا على عادة الحكماء من أتباع أرسطوطاليس، حيث يعتبر الفارابي أنّ علاقة البشر فيما بينهم، شبيهة بعلاقة أعضاء البدن فيما بينها أيضا، أي أنّ الانسان لا يكون إلّا جزءً من كلّ، فيما تتضافر جهود هذه الأجزاء لتحقيق غاية كبرى، هذه العلاقة لا نحتاج في إدراكها إلى أزيَد من صرف الإلتفات إلى أنفسنا وسائر الموجودات بعيدا عن الحالة الانفعاليّة، ولكن، و بسبب استحواذ الأفكار -المضادة لهذه النظرة- الّتي راكمها المفكّرون الليبراليّون، وأنسنا بها في أذهاننا، لزم أن نحتمل مصاعب طلب المعرفة النظريةّ في سبيل بلوغ المعرفة التي تجعلنا على دراية بأنفسنا كأجزاء من كلّ. والآخذ عن الفارابي نظرته هذه، يستبطن إقرار رجحان النّفع العامّ على النّفع الشّخصي، ولا يحوج الكشف عن هذا سوى تأمّل بسيط.
وهكذا يصبح لفظ "الحلّ" دالاً على معنيين مختلفين، معنيان يختلفان لأجل اختلاف القاعدة المعرفيّة الّتي يرتكز عليها مطلق هذا اللّفظ، وهذه هي النقطة الّتي توقعنا في الوهم، وبما أنّ لفظ الحلّ لم يعد يحظى بارتسام واحد في الذّهن، سينقشع الغباش عن أعيننا إذا ما قابلنا المعنيين لنرى أنّ الحلّ الّذي يتحدّث عنه المسؤولون، هو من وجهة نظرنا، كارثة.
خلاصة القول، أنّي أردت تقديم تصوّري المأساوي للجهاز اللّفظي الذي يمتلكه سادتنا الوسماء، لأن التّواصل يقوم عن طريق اللغة، لكن لغة الخلاص هذه، تزخر بالتضمينات، وأن في قاموس هؤلاء كلمات تكذب، وحرصا على الإيضاح، أقول أننا لا نصدّق كلمة واحدة مما يقولونه.
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة