"وبالجملة، لست قادرا على تأليف موضوع بمقدّمة وخاتمة، وبينهما بحث مستفيض لموضوع ما، في فصول متراصّة البناء. كان هذا يقلقني، ولم أتجاوزه إلّا يوم تبيّن لي أنّ ما كنت أعتبره عجزا يمكن أن أجعل منه الموضوع الرّئيس لمؤلّفاتي"
عبد الفتاح كيليطو
***
الممارسة الرّوتينيّة، شأنها شأن كلّ الممارسات عندي، تحتاج صبرا لا يملكه إلّا الأنبياء، لأنّني شخص هامد، لا حماسيّ، وسريع الملل. أبلد من أن أقتحم أدواري الوظيفيّة ككلب مسعور. ولذات السّبب، أنا ضعيف الذّاكرة أيضا، فالبلادة وصف للذّاكرة كما هي للجسد. لأنّ التّذكّر تنقّل للجسد داخل العقل. والذّاكرة مدينة، وسطها صلب موضوع نصّ لمؤلّف ميّت، وحدودها الهوامش الّتي تضمر نوعا من التّنقيص بحقّ كلّ من استخدمها للتّعليق، فالمعلّق يولد ميّتا. ولهذا أشعر أن "موت المؤلّف" عند رولان بارت بها مزق من المؤاساة.
يكاد يكون ما كتبت أغرب ما في ذهني من حيث الانتقاء، لكنّني أشعر، أنّ آثار الاقتباس من صاحب الكتابة "بالقفز والوثب" تستفحل داخل النّص. فأن تقتبس يعني أنّ اللّغة نفسها قد ساقت يدك بجبريّة نحو الاقتباس. فأنت بالتّالي حين تقتبس، تقتحم خيوط نسيج الاقتباس وما تحويه من فضاءات. فالاقتباس، وإن كان يحضر ميتا، إلّا أنّه ينطوي على قوّة تناقض رهيبة، شبه محيّرة. لأنّ به قدرة على الخلق والإيجاد. فهو بالتّالي، خالق ميّت. أليس كذلك؟ يجيب نيتشه: "معك حقّ"، فالاقتباس يهدم التّرادف بين الموت والعقم، ويلحق تحوّلا مدهشا بهذا التّزامل، فهو على الدّوام ميّال للولادة.
مفهوم الولادة مرتبط بالموت بشكل مباشر. ولكنّني لا أعلم إن كان نقيضه، أم أنّه ينبثق منه، أم نقيضه الّذي ينبثق منه. إذ يمكن للموت أن يكون الحقيقة الّتي تبطل حقيقة أخرى، فيكون نهاية التّوليد. ويمكن أن يكون الفكرة الّتي تولّد فكرة مساوية في التّضاد معها بحسب قانون نيوتن للقوّة (هذا هذيان فيزيائي). وهنا لا أعلم أيّ من اللّفظتين أقرب إلى مخاصمة الولادة، الموت أم العقم؟ وفي جميع الأحوال، تطفو غرابتي إلى السّطح، وتصير واضحة، يمكن لمسها لمس اليد، فأنا البليد الّذي يأكله العقم، الرّاغب بالموت فضولا، كيف لي أن أتحدّث، الآن، عن الولادة؟
لعلّ هذا ما جعل من عقلي شحّاذا يتوسّل الاقتباس من كيليطو. في محاولة لتسوّل سيل من الكلمات الّتي تنطوي على معاني التّوليد والإيجاد. بل للاقتباس نفسه كممارسة عمادها الولادة. ولكيليطو، كالتفاف مخادع حول عقمي. أي كفرصة للكتابة عمّا يثقل يديّ، عندما ينخر عقم الكتابة عباب الولادة، لا عن الولادة نفسها. ولكن كيف يمكن أن يكون شكل هذا الاستجداء المعرفيّ؟ فكّرت في الكتابة الشّذريّة لثلاثة أسباب وشذرة. أمّا الشّذرة، فهي أنّها نفسها قد تمارس السّحر الّذي لا أستطيع ممارسته. فهي قد تفكّ عقدة العقم عندما ترسم بصماتها في نصّ آخر تكون له مادّةً خامّا، لأنّها تحمل في طيّاتها شيئا يتعدّى مجموع الكلمات والألفاظ الّتي تكوّنها. وهي بذلك تكون قادرةً على التّحرّك نحو الأماكن القلقة الّتي أتجنّب الحديث عنها. الأماكن الّتي تبقى متضمّنة لا في الشّذرة نفسها، ولكن في سياق التّساؤل حولها، أي في ما يقابل قارعة الطّريق في اللّغة كمفهوم الولادة مثلا. وأمّا الأسباب الثّلاث، فالأوّل، كونها كما يقول موريس بلانشو شكلا كتابيّا يحاكي الحاجة إلى التّعبير عن فكر موزّع لا يقرّ له قرار. فهي بالتّالي شكل يحاكي تخبّط رأسي، وعجزي عن الإتيان بمقالة متّسقة، مؤلّفة من فقرات تشير جميعها إلى "الولادة". والثّاني، أنّ الكتابة الشّذريّة تعطي مساحة للقارئ كي يكون فاعلا في النّص لا متلقّيا فحسب. وهنا، هي إذا عمل تشاركيّ -يستر قصوري- بين كاتب حيّ (بالإذن من بارت)، وبين قارئ يشارك الكاتب دهشته، يسأله ويسائله، ويمارس قراءةً "رافعةً رأسها" على حدّ تعبير عبد السّلام بن عبد العالي. أمّا الثّالث، فكون الكتابة الشّذريّة تحوي هامشا حرّا للتّوليد، ومساحة للإيجاد. فهي عند كلّ شذرة تفتح للقارئ مجالا للخلق والإبداع، وفرصة لإقحام اقتباسه المفضّل مثلا. وبهذا ألقي عبء "توليد" السّؤال والجواب على حدّ سواء، على القارئ وحده، كـ"صديق للمؤلّف". فيصبح النّصّ دعوة لنوع من المسامرة على ضفاف 'نهر بو" الّذي يبعد عن منزلي بضع مئات الأمتار. إلّا أنّني، -وعلى الرّغم من كلّ هذه الأسباب، وبالرّغم من أنّي أحبّ أن أكتب في عشر جمل ما يكتبه غيري في كتاب كما يقول نيتشه، أجبن من أن أكتب بطريقة لم أعهدها. فالتّجديد، بمعنى ما، يساوق الولادة من جهة، ويتطلّب حماسا من جهة أخرى. وأنا؟ مرّة أخرى، بليد، يلفّه العقم كالملاءة الّتي تلفّ جسد المكفّن.
في قصيدة للشّاعر تراكل، نقرأ أنّ "التّوهّج هو أخ شرعيّ للشّحوب". وعلى هذا المنوال نقول أنّ الموت أخ شرعيّ للولادة. فإذا كان ما كتبته أقرب للموت، فالنّصّ قريب الولادة وأخوها. وإذا كان ما كتبته أقرب للولادة، فهذه كلمة السّرّ يا صديقي، خذها، وراقب ظهورها في الدّلالات والاشتقاق الإيتومولوجي، وأقحمها في كتاباتك فلا يصاب الكلام بفساد الصّيغة المتشائمة، أو لعلّه يفعل. لا يهمّ، لأنّني وأنت لن نكتب، أبدا، شيئا استثنائيّا، حالنا كحال جميع من كتب، لأنّ ما هو استثنائيّ يظهر في اللّحظة الّتي نتوقّف فيها عن الكتابة، لأنّ قدرة الألفاظ على الوصف والحكاية، حينها، تكون مشلولة، عاجزة، وخاملة.
الصورة: "بورتريه الكاتب غارشين" - رسم لـ ايليا ريبلين
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة