في المرّة القادمة، وعندما يجيء إليك المشدوه بالعصر الجديد، ليخبرك عن الرّفعة الإنسانيّة الّتي توفّرها لك روح الحداثة، احرص أن تبصق عليه، واشغله، بلا شفقة، بمسح لطخات لعابك عن وجهه. والبصاق ليس مسألة معرفيّة البتّة، على الرّغم من أنّه في بعض الأحيان قد يدور مدار النّقد، لكنّه هنا، مسألة شخصيّة بامتياز، ذلك أنّ المتشدّقين بأنوار الحاضر على الأغلب مصابون بـ "التّحديث الوسواسي القهريّ"، الّذي يلزم منه "اضطراب إدمان الرّفض"، هكذا، تجدهم يثرثرون لأجل قول "لا" دون سريان ونموّ في المعنى،  فقط "لا"، على افتراض أنّ هذه الـ "لا"، توطّئ للسّير قدمًا، لكنّها تجد مآلها الأخير في ذاتها. ستكون التسمية هذه، مؤنسة لذهنك، لأنّك، ومن المؤكّد، خبرت هذه العوارض عند ملاقاة "بُعبع" ما، خلال ارتيادك المعتاد لمقاهي مثقّفي الوسط. تَصفح موقع معجم على الانترنت، البعبع: بالانكليزيّة boogeyman، كائن وهمي يخاف منه الأطفال، وفي زمننا هذا، العصر الحديث، البعبع يمكن أن يكون، حسابًا وهميّا على فيسبوك أو انستغرام. وإذا كنت تجريبيّا مثلي وأصدقائي، جرّب أن تخبر أحدهم بنفسك عن مدى إعجابك بهذا النّص مثلا، الذي تتلمّس كلماته بأصابعك الآن، ستراه يبعبع مرتبكا، يهمّ بوضع مزاعمك موضع الاتّهام كغاية أخيرة له. إيّاك أن تنبس ببنت شفة، أبصق في وجهه، وغادر على الفور… آه نعم، بعد تمريغ وجهه بلعابك.

أنهيت للتوّ الفقرة الأولى من نصّي، تزامنا مع آخر "شفطة" من السيجارة العشرين، سأعدّ سيجارة أخرى كي أكمل، لأنّني إذا ما شرعت في الكتابة من دون سيجارة، إذا بكلماتي تصبح ناعمة كالفراشات، وإن كانت كلماتي في العادة، والّتي يساكنها النّيكوتين، تشكّل، وبفعل عشوائيتي في انتخابها، محتوى غير قابل للقراءة، أو "unreadable content" كما يحلو للبعض تسميته، إلّا أنّني أفضّلها بدرجات عن الكلمات الّتي تشبه الفتيات المدلّلات. 

حسنا، لا يهمّ، ما زلت حبيس غرفتي ، بل ونسيت تماما متى كانت آخر مرّة خرجت منها، أقرأ، وأكتب، وأتابع دروسي "أونلاين" رغم فقر درايتي بالتكنولوجيا، أساسًا ما من شيء يدفعني للخروج، لأنّ سرديّات الخارج ورؤاه، وعلى الرغم من تفاوتها وتمايزها، إلّا أنها في صلبها، رسالة واحدة، مؤدّاها، وبالتّزامل مع تصنيم التّجديد، ألّا جديد يا صاحبي، مجرّد فوضى من المواد الخبيثة الّتي أفرزها السّوق، والّتي نجحتُ، إلى الآن، في منعها من التّسرّب كالماء من بين جدران غرفتي، لئلّا تصيبني لوثة الحداثة. 

الخارج بات مخيفا جدّا، ثمّة من سوّى مسألة الغايات، بشكل تعسّفيّ، وعلى نحو لم يعد قابلا للجدل، لا بفعل اتّساقها المنطقيّ الدّاخليّ وانسجامها مع تقرير واضح للمسألة الإنسانيّة، بل بسبب نموذج التّحالف بين رأس المال والأنبياء والوعّاظ، والشّراكة الأبديّة، ربّما، بينهم في غرفة إدارة المصنع. يعني "خالصة"، مسألة تحديد الغاية في ضوء المخاطر الّتي يعرفها الفرد ويتوجّس منها، تشبه بومة الإلهة نيرفانا، لم تحلّق إلّا عند الغسق، ثمّ أشرقت شمس الانسان المعاصر، إلى الأبد، على الكيفيّات، فصارت العقلانيّة مقيّدة، منسلخة عن ذاتها، لأنّ توظيف العقل اختُزل في مجال "العقلانيّة الأداتيّة" فقط، أي أنّ العالم صار منشغلًا بالوسائل، ولا شيء سواها، والمهمّة الأخيرة للنّاس باتت تكمن في شحذ الوسيلة وضبطها. وهنا تتجسّد الإشكاليّة الكبرى، ستشتري غدًا أحدث هاتف جوّال، وأحدث لابتوب، وأحدث سيّارة أيضا، مبروك أخي، لقد وجدت الوسيلة، أو الحلّ، يبقى أن تجد المشكلة، أو الغاية. هذه هي الحداثة، إنقلاب ميتافيزيقيّ عميق للمفاهيم على نفسها، فزع معرفيّ غائر يُسقط الإنسان المعاصر في موقف حرج، تُشكّله مجموعة مُوجِّهات لأعمال، تعكس حريّة الفرد بأن يسلك نمطًا معيّنًا من الحياة دون نمطٍ آخر، ولكن ضمن خيارات محدودة، ومن دون بلورة حقيقية لإجابة سؤال "ما هي الحياة النّاجحة؟"، فينتج عن العصرنة، بشكلها هذا، أرجحة لامتناهية بين مسارات، كلّها مائعة تنسلّ من بين أصابعك إذا ما حاولت القبض عليها، فلا صرامة في الاختيار والانتخاب، لأنّ التأمّل في الغايات، الضّروري لضمان التّناسق بين الهدف والكيفيّة، وليس بالضّرورة أن تكون غايات متعالية، سيُواجه بشدّة وحزم، لأنه سيُعدّ هرطقة يُساق صاحبها إلى العزلة والانزواء، وتصاب قدرته على الانضمام للمجتمع بالشّلل. وهنا تتّضح إشكاليّة العصرنة، فإذا كانت هويّة الإنسان المعاصر هي مجموع اعتقاداته الجادّة، المنبثقة من حريّته في الاختيار، فيما يتعلّق بمعنى الحياة والخير، فإنّها من غير الممكن أن تتشكّل، لأنّه أخذ النّموذج الّذي يسوق الذّات في رحلة أبديّة لبناء الهويّة. 

يبقى أن العصرنة، وما دامت تقوم على طمس مفاهيم الإنسان باستبداد، فإن تبدّدها يقوم على مبدأ استحالة نسيان الإنسان لما فهمه كما يهوى، إذ أن انخراطه في سيرورة العصرنة، وعلى أحسن تقدير، يقوم على كبت مفهوماته وكتمها. ومهما تجذّر اندماج الإنسان المعاصر في هذه السيرورة، فإنه لا يمكن أن يهادن انشطاراتها، ولو بعد حين. أمّا عن نفسي، وإلى ذلك الحين، الذي يعود فيه الإنسان إلى رشده، فهذي عصاي، أهشّ بها على غنمي.

كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة

لمزيد من التفاصيل أنقر هنا
Patreon support button