لا أعرف بالضبط بكلامِ مَن أستطيع أن آخذ. حتى حكمة جدي لا أستطيع الأخذ بها كونه لا يعرف أنا إبن من، ومعظم حديثه عن ذكرياته من الحربين الأولى والثانية وعن كيفية تطعيم الدُرّاق. آها الحرب! يا للبداهة ستكون بداية جيدة، لكن لا دعني أرجع إلى البداية الأولى بعدُ. نعم إلى الفردوس، اليوتوبيا الإلهية، حيث كنا (آدم وحواء فقط) نعيش في الكَيف والرّخاء، وحدثت باستمرار وجودنا المشاكل (ربما مشاكل إيجار) فطردونا ببساطة ووضعونا على الأرض ثم قيل لنا إن تفعلوا خيرا فلكم النعيم وإن شراً فإلى الجحيم، بهذه البساطة؛ ما يعنينا هو في هذه المرحلة؛ الإنسان بهذا الشكل يحوي في داخله قابلية الوجود في عالم فاضل وفي عالم فاصل... نواصِل: فالأرض والواقع الناتج عن تفاعلنا معها ومع بعضنا البعض بعد ذلك، وعن سيرورة الأشياء والأحداث، وعن كروية الأرض ودورانها (مع الأسف)، وعن تكاثرنا المتواصل، هما محض قناع لعالمَين متضادَّين؛ وبما أن الإنسان يسعى نحو موت محتّم، وأن الهدم أسهل من البناء وإلى ما هنالك... يسير الواقع، بديناميكيته هذه إلى السيء دائما، وكل ما يوهمك بغير ذلك هو ديستوبيا مقنعة. وإذا أشرتَ إلى أفراد بعينهم، سوف تقع على بشرٍ مفطورين على إخراج وجودهم في العوالم الفاسدة، من داخلهم (مثل هيروستراتوس الذي أحرق في ليلة معبد الربّة أرتميس، إحدى عجائب الدنيا السبع، وكأنها سبع فقط حقاً) ومثله مجانين كثر على مد التاريخ. المهم، لا يتوقف الأمر عند عصر معين. ولا شيء غريب، فقد افتعلنا المشاكل في كل العوالم تقريبا.
أنظر بعد هذا التراكم الزمني والفكري كيف أصبحنا الآن، لا داعي لتشغيل رأسك الحكيم أساساً، فالفرضية بسيطة وواضحة. أنظر كيف يعاملونك وينبشون حاجياتك ويرهقون فيك القدرة على تلبية ما يجعلك بشريًا متكيّفًا. يعرقلون أبسط الحاجات الأساسية في عالم أصبح من المفترض أن يعي كلمات كبيرة كالحضارة والثقافة، وإلى ما هنالك من الكلمات الـ xxlarge. يذلّونك.
تعال أوضّح الأمر تمامًا: تخيّل معي (الخيال سلاحك البديهي كما ترى) أنك أردت الدخول إلى حمّام عموميّ في مدينة نصفها مطاعم ومحلات وجبات سريعة ثقيلة تبدو لذيذة بنت الكلب، حسناً كان يفضَّلُ في البداية ألا تدخل غير الحمامات المنزلية، لكنها ساعة تخلٍّ لا مفرّ منها، فتبدأ سباقك راكضاً حائصًا ضعيفًا، والناس تتحاشاك عارفةً ما بك، وملامحهم تشي بالفضيحة والاشمئزاز بمعنى (ياعععع يريد الذهاب إلى المرحاض، مقرف!)، حفاظاً منهم على إتيكيت الخراء طبعًا. تصل بعد عناءٍ إلى ما يدعى مكتب الحمامات. على الباب تجد موظفة استقبال، هذا ما قد تجده حقاً، وأَيْم الله، بشعٌ شكلها. ومهمتها تقتضي بأن تعاجلك بابتسامة يتسلل منها سؤال: "أمستعجل أم تستطيع الانتظار؟" قد يُعمى على قلبك لأنك تود أن تبدو متحضراً في ليونتك الإجتماعية، فترد بابتسامة مفتعلة نيليّه: "لااا ولو، أنتظر أنتظر لا بأس". "حسناً، تستطيع التوجه إلى المكتب رقم @$_&_#@@ وتملأ استمارة في جناح (هوّنها بتهون). تذهب إلى هناك زامّاً فخذيك، تقرأ في الاستمارة الإلكترونية (ضع ✓ في المربع الملائم):
[ عندك حجز / بلا حجز؟ - مرحاض عربي / إفرنجي؟ ، إن اخترت افرنجي هل تريد السيفون: دفع / سحب؟ - بيبي / كاكا؟ - لفافة تواليت / علبة محارم؟ - شطّافة / بدون شطّافة؟ - مع إطلالة / قبالة الحائط يمشي الحال؟ - فترة الانتظار: ٥د - ١٠د - ٣٠د - يوم؟ - هل معك اكتام أو إسهال؟ إذا اخترت إحدى الإجابتين على السؤال الأخير، اذهب إلى الصيدلية هذا ليس المكان المناسب.].
وبعد أن تتم العملية تسحب رقماً وتذهب إلى قاعة الانتظار. وفي القاعة، تجلس وتذاع من المكبرات الصوتية موسيقى استرخاء، صوت خرير مياه وانفجار الينابيع الدفّاقة. شاشاتُ العرض تعرض دعايات مثل (لا كوابيس بعد اليوم مع بامبرز). وفي دعاية أخرى: جوانب مطاطية، جفاف أفضل، حماية من التسرب... فلا تستغربُ حينئذ من بطل رواية "الحمامة" لباتريك زوسكيند حين يقلب حياته المعاصرة رأساً على عقب دخول حمامة إلى المنزل، وتضطرُه إلى قضاء حاجته في المغسلة مذلولًا. فلا تستغرب أن يتحول إنسان إلى حشرة ضخمة في سريره صباح يوم عمل. هكذا ينتهي الإنسان إمّا بتسمم الكلى أو بأن يخرّيها تماما على كل شيء وهي الحالة الأمثل. وهذا مشهد ربما لن يتصدر نشرة الأخبار في حال حصوله، لكنه غير مدهش بالنسبة لي على الأقل.
لهو شيء أعمى ما يحصل ويتصوّره مجابهًا، الخيالُ. الأعمى يرى هذا، حقاً أعني هناك أعمى من القرن الخامس للهجرة بنى عالماً خيالياً مبنياً على أساس التصور الديني للعالم الآخروي، مُسقطًا واقعه عليه، في كتابه "رسالة الغفران"، وكان العالم حينها كعالمنا الآن من حيث العدوان والمحسوبية والبغض والفساد. ومنهم من يقول (العقاد) إن أبا العلاء المعرّي استخدم خياله لأنه أعمى، لكني أحسب أنه استخدمه لأنه متبصرٌ تماماً في عصره. وفي كل عصر، تجد نموذجاً كهذا يثبت أن العالم دائما لا يكفي كما هو، كعالم فاضل وحتى كعالم فاسد.
إن الخلل ليس بيننا أو بين الواقع وتصرفاتنا. الخلل هذا، هو من سمات الواقع نفسه، ويبقى أن تعرف كيف تتعامل أنت معه وليس كحلّ، إنما كمجرد ردة فعل ويا ليتها لو تكون شعراً، فالشعر أحد طرق السكنى في عالم دستوبي الطبع. هل أتكلم هنا عن الأدب؟ الشعر؟ الأرض الخراب؟ ربما عن التأويل أتكلم.
منذ اللحظة الدستوبية البابلية (حادثة برج بابل وبلبلة الألسن) لم ينتفِ التناغم بين البشر تماماً، بل انبجس شيء آخر ربما، قد يكون التأويل: فالأدب إعمال نشطٌ للتأويل الحرّ، وبوضع هذه الأفكار في الذهن بشكل مرتب، تستطيع أن تتحصل على المعادلة التي تكشف لك دائما التفاعل الديستوبي في أي شيء: إحراق الكتب مثلا، أو تخيل مجدداً عالماً نُسجن فيه بتهمة استخدام المجاز، أو عقوبات تطال مستخدمي أدنى أساليب البلاغة، بعد أن يوضع في فم كل رضيعٍ، جهازُ تنصت. والأمر ليس ببعيد. في عالم كهذا ينقذك اليأس (كان يأسهم ينقذهم من الرعب / الطاعون - ألبير كامو) ويكون البؤس معلمك (من الذي علمك هذا يا دكتور؟ فأتى الجواب فورا: البؤس). باختصار، ما ينقذك قد يكون القبول فحسب، أي الديستوبيا نفسها، الديستوبيا حتمية. تعيش في الحاضر ولا تعزية لك غير التذكّر فحسب.
وقد ينقذك ربما أن تكون طفيفاً، كما قُدّر لك، أن تمضي في شأنك، أن تقرأ هذا المقال مثلًا، وتقول: "تبًّا لكاتب هذا النص."
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة