هل تقدر فعلاً على كتابة شيء في موضوع كهذا من دون أن تسقط في العدمية بشكل تلقائي وانسيابي، كانزلاق سيارة على لحسة مازوت؟ لا أظن ذلك. كتبت في النوت عندي، والتي بالمناسبة تتخطى الـ 3000 نوت معظمها مدوّن لا نية في إخراجها إلى النشر، ما يشير إلى انحباس للمعنى المرجوّ والمقروء والمأوّل وإلخ.. كتبت أن الروبوت يثير شفقتي، لكن الإنسان يبكيني تماماً. هذا ما أعنيه، فإن أي موضوع يمسّ هذا الإنسان يجعلني أسمو تماماً، وفي مقدوره في نفس الوقت أن يهزمني ويجعلني أنتحب كالعاهرة في أوقات أخرى. يا سيدي المهم؛
إنني والأصدقاء في المقال-القصة، نتخذ في مكان ما كما يقول أمبيرتو إيكو قاعدة في أن "ما لا يمكن تنظيره ينبغي سرده" وعلى هذا الأساس ها أنا أتكلم وأكتب على تيليغرام، في الرسائل المحفوظة، على هاتف هاواوي قديم، السماعة في أذني بلا أي سبب ولا موسيقى، والمساحة طبعاً، مثلما هي عندكم غالباً: احذف شيئاً فالمساحة غير كافية.
وكما كنا نقول في سابق الأعداد: إن كان دخولك الجحيم مضموناً، فخذ فوشاراً معك، فإن تلك لتحتسب قاعدة عامة:"احذف شيئاً لتوفير المساحة" هل تحذف الماضي بالتالي والتجربة البائتة والخبرة المتراكمة؟ أم تحذف الحاضر فتنام في الماضي أو المستقبل، أم تحذف المستقبل وتمضي يوماً بيوم؟
الماضي، حيث الذين ما عادوا معاصرين لنا، المعاصرة للأحياء، لكن أليس على الأحياء أن يحملوا أفكاراً حيةً ليكونوا كما نصفهم؟ ولأني أحب إحراق المفاجآت، إحراقها عليّ ولا بدّ، ففي آخر النص أكتشفت ألا أحدَ منا، معاصر، أعني ليس معاصراً إلا لأشكال موته.
تريد نصًا محبوكًا مرتبًا، ابن ناس وكذا، عن الإنسان المعاصر. وصولك الى هذه الجملة هنا يعني ذلك. طيب، إليك كاتب هذا النص، مثالًا واضحًا على أحد إنسانات هذا العصر، أنا بالكاد أقدر على إكمال النص، أفكاري مثل عقلي، مثل دوام نومي، غير مترابطة، وتحضرني بهوس جملة من فيلم: "الأحداث التي حدثت لي هي التي تدهورت، وليس عقلي"، نسيت الفيلم. وما تقوله الجملة صحيح بشكل ما، قد يكون صحيحاً تمامًا بالنسبة لك، هي التجربة، كيف تتصرف أنت دون سواك في لحظة متعارفة.
لكن هاي، هل خلت العصور من المصائب والخراء الذي يحل فيها؟ ألم يشعر غيرنا من القدماء بكل هذا؟ ألم الظهر والكتفين والضياع العادي اليومي الذي نشربه مع الحليب صباحاً؟ أنا متردد، هذا واضح تماماً من جملي، لكن ليس كالتردد المألوف، أستطيع أن أشعر ببقايا الغصة التي تصيبني مؤخراً (شيء شبيه بغثيان من أكل عشرين بيضة مسلوقة صباحًا، أو بشعور من يواجه باللاحب، أو من العشرين بيضة أظنها أقرب للمخيلة) تخرج هذه الغصة فجأة كالتجشؤ، فأشيح برأسي، أخرجها: حرارة وصوت أنين خفيض يشبه الهسيس لمدة ثانيتين، يتجمع الدمع دون أن يسيل كما يتجمع على ليمونة تنعصر، فتنظر حولك لتتأكد ألا أحد رأى هذا الهراء، ثم يعود وجهي آليًا إلى حالته الطبيعية؛ أن يكون المشهد بهذا النمط مثلًا، لك أن تتخيل كم هو مضحك/مؤسف: ضحك-غصة-ضحك.. وهكذا.
خذ كاتب هذه الجملة التافهة مثالاً. لا أعرف إن كنت سأموت في الجملة التالية، لا أعرف إن كنت مصابًا بمرض ما، لا أعرف إن كان هناك من يود قتلي، لا أستطيع الوقوف على حقيقة أي شيء، وهذه ربما هي الحقيقة الوحيدة الأكيدة التي تقفُ عليّ. لا أعرف إن كنت سأموت في الجملة التالية، هذا أمر مخيف، وفي حال مت أصلاً ولم أكملها، هل ستُحتَسَبُ لي معجزةً أسلوبية مثلًا؟ هيا قل الحقيقة؟ ألا أستحقها؟ أم ستعتبر مجرد جملة ناقصة؟ مقطوعة غير مبتوت في معناها وطول ذراعها وامتداداتها، خلفياتها، ومن بعثها وإلى أين. دعني أُفهمك سر جملي: إنني بالجملة المركبة أحاول إغلاق الباب خلف نفسي، لئلا يدخل أحد ويعبث في المكان، أو يخلق سوء فهم ما، وها يبدأ أكل الخراء، جدال وأخذ ورد لا طائل منه، لعي، مصروف مهدور من اللعاب الذي يُفَضّل أن يمزج بلعاب من تحب.
فإذاً، أنت مضطر إلى تحرير النص دائماً، التحرير أحياناً حاجة حضارية، حاجة تُهمّ القارئ وعيونه السود، لكن البعيد قليلًا عن الحضاري، أعني القريب أكثر إلى البشري (لن أرفع الكلمة الى إنسان كيلا أتقيأ) ألا يعد التحرير بالنسبة إليه نوعًا من أنواع التشويه؟
لا أريد الخروج من الموضوع، هذا إن دخلت فيه أصلاً. لكنها "رحلة" يا مذرفكرز، أستطيع التعبير بحرية، وإن خسرت في جملتين، سأربح في الفقرات الآتية. ما هو عنوان العدد؟ إنه نقد الإنسان المعاصر. ما معنى معاصر؟ لا أعرف في اللحظة الحالية، لكن ما هو معاصر أبدًا بالنسبة للإنسان، هو الموت. في هكذا عصر، لمن السهل عليّ أن أتخيل خبر إنسان مات بسبب فشل في الاتصال بشبكة الإنترنت: "المرحوم، غاص في الدردشة ولم يلاحظ ابتعاده عن الوايفاي.. كان قد أبتعد كثيرًا حتى بدأ بالاختناق، فلم يسعفه الحظ في الوصول والتعلق بها. العزاء في الغوغل ميت/البقية في حياتكم، لكن من مات لم يبق من عمره شيء، اقطعوا الهراء (كات ذا شيت) مات بسبب فشل في الاتصال بالشبكة، لا الفشل الكلوي أعني على سبيل المثال.
الموت إذن هو معاصرنا الدائم، وبما أننا ناس تكتب وتنشر وما إلى هنالك من هذه الأمراض، فلي أن أفكر بعلاقة الموت واللغة التي نتحدث بها. لقد مات ما يقارب العشرة أشخاص مؤخرًا في المنطقة حيث أنا. لاحظت أن الموت (خصوصًا الفجائي والمتعدد في جو الأوبئة هذا) يعمل على تطوير اللغة، ولم أكن لأظن من البداية أصلًا أن كل هذا الموت سيذهب تاركًا اللغة وشأنها، فهو سوف يصقل الكلام؛ لاحظت تعابيرهم وكلامهم الأوليّ حول فاجعة ما، جربها بنفسك، فستجد لغتك ركيكة مرتجفة كمُغتَصبة للتوّ. الموت يجبرك على الهدوء عاجلًا أم آجلًا، بالتالي أن تفكر فيما ستقوله أو ستكتبه، مما يجعلني أقول، إن شعريّةً ما، هي مزيج من الموت والهدوء.
إنساننا هذا يا صديقي، وتستطيع أن تقول أنا، عليه أن يحمل الموت في داخله ويعيش. لا حل آخر، لا حل آخر لأنهي هذا الهذر على الأقل، وأضع نقطة وأقول تشاو. سأقولها، لأنني تأخرت فعلاً عن تسليم نصي، أنا آسف على هذا المستوى، لست راضياً بالطبع، لكن كما قلت لك، إنني أتكلم، أعيش، حاملًا هذا الموت المتراكم، عسى أن يصقل لي لغتي أكثر فأكثر، في قادم النصوص.
هذه حرية هذا الإنسان، حريتكَ، لن تمسكها؛ كتبت بعد غصة مثل تلك التي تحدثت عنها: نتمنى ونحن أطفال الطيران، أقصى تعبير عن حرياتنا، ونحزن على العصفور في القفص، ولكن أنت، قفصكَ مفتوح أيها الإنسان، لماذا لا تطير هرباً؟
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة