الميلاد الذي تلفظه الرحم على غفلة هو الموت اليوميّ. الولادة الأولى ليست كما يُشار إليها في أسطورة آدم وحواء، اللعنة على تفاحتِهما.
التصفية، الولادة الأولى. "قايين" يقوم بتصفية أخيه "هابيل". قُتِل هابيل ووُلِدتْ غريزة البقاء. لا يهمّ إنْ كانت مجرّد أسطورة أم واقعة. فالكذبة ممكن أنْ تتحوَّل إلى حقيقة إنْ تكرَّرت مئة ألف مرة.
مَن منكم وُلِد بلا أقنعة ولم يرتدي ملابس النفاق منذ الرضعة الأولى فليرجمني، أو لأكن أكثر واقعيّة، فليهشّم رأسي بالحجارة حتى ذوبان النخاع بالبحص.
عندما سُئِلتُ عن ولادتي الأولى أجبتُ: "حين ولدتُ، عند الساعة السادسة صباحاً على ما أذكر - لم تخنّي يوماً إلّا الذاكرة - لم ينسَ الطبيب مقصّاً في جسمي، نسيَ لافتة حُفِر عليها: ’الخطيئة الأصليّة‘".
لم أكمل الرواية. سأكمِل. صَفعَني الطبيب يومها على مؤخرتي، فاتني إسمه، ربّما الدكتور زيفاجو. قال إنه يريد التأكّد أنّ كلّ شيء "طبيعي" عندما سأبكي. قلتُ "لا بدّ أنه شاذٌ".
أخبرَ زيفاجو أولياء أمري أنّ الكهرباء شغّالة في رأسي على نحوٍ سلبيٍّ، هذا ما سيجلب الكثير مِن المَتاعب لاحقاً، على حدّ قوله. الكهرباء ناشطة والحياة معطَّلة. لم يعنِ لي الأمر البتّة، فجميع أموري لا علاقة لي بها منذ ذلك الحين، ولست وليّاً مِن أمرِ أيٍّ مِن أموري.
التخاذل، الولادة الثانية. حُمِلتُ برأسي الكبير، في شكله الحالي، وبجسد طفلٍ صغيرٍ في الأشهر الأولى، ووُضِعتُ في تابوتٍ خشبيٍّ مرصّعٍ بالذهب. ولدتُ ورحتُ أمشي وأعدُّ خطواتي غير الرصينة، أمشي إلى ما لانهاية، إلى أنْ صرتُ جلداً على عظمٍ والعظام إلى جزَيئيات متخاذلة. عظمة على عظمة يا ستّ! كلّ التحيّات والشكر على التابوت المرصَّع بالذهب. وهكذا وُلِد الخوف مشبَّعاً بالضعف ومتلازمة التعتيم، على كل شيء، التعتيم على الهروب مِن الوحدة لأنّي بتُّ أخاف مِن نفسي على نفسي. وكما أنّ الحياة للأقوياء في نفوسهم وليس للضعفاء، لذا، اخترنا الموت صباحاً، وتنظيف الكفن في المساء. هكذا وُلِدتْ رجفة اليدين.
أنا المُستاء. وأنا الحاقد المتسلبِط الرافع الإصبع الأوسط في عيون كلّ مولود، أصرخ أمام الوجوه المقنّعة، آخذ نفساً، ثم أصرخ أعلى، ألتقِطُ أسناني تتهاوى أرضاً، ثم أصرخ أكثر…
لم أفهم لعنة الشجرة، حتى حين كنتُ ذات مرّة برفقة صديقة، هي الأخرى لم أفهمها أيضاً، وكنّا جالسين أرضاً على حافّة شبه قصرٍ يملكه أحد "وجهاء" المدينة التعيسة. الشجر أمامنا وسوار القصر وراءنا. راحتْ تشرح لي عن علاقتها بالشجر ومحادثتهم وامتلاكهم للمشاعر… والذي اعتبرته هراءً حينها، إلى أنْ فعلاً بدأتْ تتمتم وتشير بإصبعها نحو إحدى الأشجار التي أخذَتْ تلوي أغصانها في صيفٍ حار افتقر لأيّ نسمة. مع العلم أننا لم نكن مخمورين ولا تحت تأثير مخدّرٍ ما، على الأقلّ هي.
المتكلّم يزيد مِن توتّري. سيكون المتكلّم صياغةً لما تبقّى. فأنا ولدِتُ أساساً بمفردي، لم يكن لي توأماً لا ولادةً ولا حياةً، وسأرحل بمفردي أيضاً، دون إحداث أيّ ضجيجٍ، ودون تزامُن رحيلي مع حدثٍ غير اعتياديٍّ. "رحل على الهامش"، سيقولون.
هكذا وُلِدتُ، المرّة الأولى، على أثر امتداد جذور شجرة تين في الأرض ولم يحتملها المنزل الهشّ، ولم نحتملها نحن ضعيفي النفوس، فاهتزّت الجدران الباهتة بِمن فيها على مَن فيها. وخرجتُ أنا مِن الرحم عنوةً. مَن أكون؟ أنا الذي قُدّر لي أن أولَد كلّ مرّة نرتطم بها أنا وسيارتي بجدارٍ، إلى أنْ تُفرَغ الفُرَص أجمعها.
اخترتُ الماركسية مسلكاً ومنشأة للأخلاق، إلى أنْ أدركتُ أنه لا بدّ لي الإنفصال عن الأخلاق، أقلّ إضطراباً وأخفّ ضرراً على خلايا دماغٍ تُحتضَر في كلّ صباح ومع ولادة مشاريع عقيمة خجولة خبيثة مفروغاً منها وخرائيّة. لم أفلح لا بصياغة المتكلّم ولا بصياغة الأخلاق.
أنا الحاقد على السنبلة من حبّة القمح إلى الرغيف، وعلى تعبي مِن أنّي حاقدٌ، وعلى أصابعهم وهي تخضرّ تزرقّ مِن كثرة عدّ النقود، وعلى أيّام الآحاد وعِظة الأحد. أنا الحامل الضغينة معي أينما رحتُ. حاقدٌ على الجميع، على الرائحة الكريهة المنبعثة مِن فاه الممرِّض المساعد أثناء الولادة، على سائق الأجرة الذي عرضتُ عليه ثلاثة أضعاف المبلغ لكي يوصلني وأكون شاهداً على المجزرة. حاقدٌ على الجميع، مِن أجل الجميع، على غبار الربيع، على الشمس التي لم تمنحني فرصة التحديق بها. أنا الضغينة الموجّهة على الوجوه والألسنة الصفراء التي أيعنَ ربطها وابتلاعها. تحسّسوا سائلكم المنويّ، فأنا الراغب بتعطيل وظيفته.
هكذا أنا، مولودٌ غير مخلوق، مالك الحق والحياة، فمَن أوصى على رقبته أمانةً بين يديّ كان مصيره الهلاك الأبديّ.
وجلسَ على الكرسيّ المتحرِّك وبدأ يُدحرِج نفسه جيئة وذهاباً، وقال:
- كيف لأحدٍ أنْ يكون سعيداً يا "باكو" وهو مواظبٌ على تكرار الأحداث نفسها؟
- وقعنا في التكرار يا "ساكو"، مصيبة.
- يومياً يا رجل، لا خلق، لا فرصة لأي إنتاج جديد، ولا بخش أملٍ واحدٍ.
- صحيح، إخلق ولَو دماراً لكن لا تكن خنوعاً! هههه ...
- نحن ندفن أنفسنا بالمعقول، لا خطوة ولا جرأة حتى لمجرّد التفكير باللامعقول.
- همممم.
- ما هذه الـ "همممم" ؟! أتصدّق أنّي لو علِمتُ أنّ المعركة خاسرة مع السعادة لشنقتُ نفسي منذ الرحم الأولى؟
- هل تعلم السبب وراء استمرار استيقاظي على الحياة يوميّاً؟
- لا، لا أعلم. لماذا هكذا أسئلة تافهة؟!
- إذاً إعلَم. أنا مواظبٌ على اليقظة يوميّاً لأني مدهوشٌ فعلاً، لأني أريد التأكّد إنْ كان سيطلع الضوء على هذه المدينة البائسة.
الصورة: رسم لـ شون بروزالي
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة