ربطَ راضْ رسن حصانه بقرب سيارات يتحدث سائقوها الآليون فيما بينهم، نظرَ إليها بتعجب خفيف ثم تناولَ هرّه طاحون من جيب السرج، ليربت على رأسه قائلًا: "سترى مخلوقات تستفزك هناك بالأعلى"، وتطلّع نحو مبنى غريب، يظهر من مواد بنائه أنه عصريٌ لكنه ليس حديثًا تمامًا، مرتفعٌ لكنه ليس ككل الأبنية من حوله، ومهترئٌ كأنه يرتدي طبقة سميكة من الغبار. وأضاف ناظرًا إلى طاحون: "لكن عليك أن تحسن التصرّف!"، ثم خلع قبعته ليمسح بضع قطرات عرق عن جبينه، نفض حذاءه من الرمل الذي جلبه معه من الطريق، وتقدم نحو المبنى.

أعطى نظرة أخرى إلى حصانه، متسائلًا كم سيكون مستمتعًا برفقة تلك الآلات وأحاديثها، لكن عليه بأي حال أن يصعد إلى السطح. طلب المصعد، وصل بسرعة، دخل إليه وبحث عن الأزرار ليحدد وجهته فلم يجدها. وقبل أن يتساءل، سطع نور شاشة بقرب الباب ظهر فيها وجه مجرّد من الملامح يسأله عن وجهته، وقبل أن يجيبه سحبَ راضْ لفافة قشّ ووضعها بين فكّيه: "السطح!"، لتجيبه الآلة أنها تستطيع إيصاله فقط إلى الطابق الأخير، وبعدها عليه أن يكمل مترجّلًا. "لا مشكلة، أحسنُ استخدام قدمَي".

وجد باب السطح مفتوحًا. عبره فصفعته أشعة الشمس، العالم من حوله صار أبيض ثم رماديًا ثم عاد إلى ألوانه المألوفة، وأمامه الشخص المنشود من هذه الزيارة. نبيه وردان1 يقف مشاهدًا حمامه، وبقربه آلي يحمل كمبيوترًا لوحيًا. لم ينتبها إلى راضْ، لذا أصدر الأخير نحنحةً، فالتفت نبيه واتجه نحوه. وضع كلٌّ منهما يده على كتف الآخر، وأول ما توجّه به راضْ إلى نبيه إذا كان بودّه بعض القش من العالم القديم، ليشكره نبيه رافضًا بلطف. لم يصرّ عليه راضْ الذي يعلم أن القش ليس لكل الناس.

"حسنًا، صديقي، ما هذا كله؟ ما هذه الأبواب الغريبة واللوحات التي بجانبها؟ ومن هذا الآلي؟ وكيف للحمام أن يعيش بمثل هذا المكان؟ أليس ما تمارسه من أقدم الهوايات في ثقافتنا، نحن البشر؟"، قال آخر كلمتَين بسخرية، وبان عن أسنانه بطريقة يريد منها أن يفهم نبيه مزاحه. وبدأ نبيه كلامه بـ"يا رجل" دلالةً على الصحبة بينهما، وشرح له أن الزمن الحالي يستدعي أن يكون لديه مساعد آلي، ذكي جدًا، لا بل أذكى من صاحبه، ينفّذ وظائف ومهمات محددة، يتغذّى بالطاقة الشمسية، والقانون يتشدد في هذا الأمر، حيث لا يمكن ممارسة أي شيء من دون مساعد كهذا.

"لكنْ"، أجاب راضْ محرّكًا لفافة القش بين فكّيه، "هذه هواية، أليست كذلك؟ وليست مهنة، فهل حولت شغفك إلى مهنة يا وردان؟"، هزّ نبيه برأسه غير موافقٍ، الهواية ما زالت هواية كما هي، لكن بعض وظائف هذا الآلي مراقبة صحة الحمام، وتوقّع حالات الطقس التي ستؤثر عليه، واختيار أفضل طيرَين مناسبَين للتكاثر فيتزاوجان ويخلّفان حمامًا ممتازًا من كل النواحي. حتى أنه يستطيع معرفة الطير الذي يعاني إصابة أو مرضًا، فيشفيه بواسطة نظام إصلاح ذاتي تتضمّنه برامجه، كما يستطيع التواصل معه بطريقة ما.

ضحك راضْ، وتوجه إلى الحافة لينظر إلى المدينة المغطاة بسحابة من الغبار، ونفخ هو سحابة دخان فوق رأسه: "ألست أنت من كان يتحدث مع الحمام في تلك الرواية؟"، هزَّ نبيه رأسه موافقًا هذه المرة، لكنه لم يعد يملك هذه المهارة الآن، فهو خارج ذاك العالم، إلا أنه بحسب ما سمع من حميماتية آخرين، يجري العمل على اختراع جهاز يترجم أصوات الحمام. كان نبيه يقول ذلك وهو بين المصدّق وغير المصدّق.

"غريب، هذه الآلة لم تترك شيئًا دون أن تمكننه. أقصد أنها مجرد هواية، لماذا كل هذه المبالغات والتعقيدات؟ لماذا دخول الآلة إلى علاقة قدمها قدم الخليقة بين إنسان وطير؟". أخذ نبيه نفسًا عميقًا متحسّرًا، لم تبقَ هواية واحدة على ما كانت عليه، من كرة القدم الأكثر شيوعًا إلى جمع الحشرات واستكشاف الأبنية المهجورة… وفيما يتعلق بتربية الحمام، فكل الأشياء الإيجابية والمخفّفة عن ثقل الإنسان صارت شبه معدومة، لم يعد ينفرد بوقت وحده يشاهد فيه حمامه بسَكينة، وغابت تلك المبارزات بين الحميماتية، ولم يعد يستخدم الأدوات المعهودة كالمقلاع والعصا الذي يثبّت على طرفها كيس نايلون للملاحة. حتى أنه لم يعد يصفّر لحمامه حين يطير.

كل الأمور صارت بعهدة هذا الآلي، مشيرًا إلى مساعده، وينظر إليه راضْ بإعجاب فيعرض عليه بعض القشّ. لكن الآلي يرفض بتهذيب. ويكمل نبيه كيف أن مواعيد تطيير الحمام كلها مبرمجة، والاحتمالات كلها مضبوطة لئلّا يصاب السرب بأي ضرر. وحتى لو حدث أنْ خرجت حمامة عن السرب، فلا داعٍ للقلق، كل ما على الآلي فعله هو إرسال إشارة إلى الحمامة فتعود من دون أي تعقيدات. ومن الممكن أيضًا، بحسب ما سمع نبيه، أن يصار إلى إنتاج حمامات آلية ترافق أسراب الحمامات الحقيقية أثناء تحليقها، فترشدها تلك الحمامات الدخيلة إلى المسارات المناسبة.

"وما الفائدة منك إذًا الآن يا نبيه؟ هل تستمتع بكل هذا؟"، رفع نبيه رأسه وراح نظره بعيدًا، يحدق بسرب الحمام فوقه، وقال إنه ما زال هنا لأنه يريد أمرًا يشغله ويؤنسه، ولأن حبه وشغفه ما زالا موجودَين، ولو منقوصَين. فهو فعليًا لا يفعل شيئًا، إنما يأتي ويشاهد. ولو اختفى شهورًا وسنوات لن يلاحظ أحد ذلك، وسيبقى الحمام على ما يرام، لن يجوع، لن يمرض، لن يتأذى، فهذا الآلي أهم منه، بينما هو هنا فقط للاستمتاع. وهذه كانت الفكرة الأولى من توفير الآليين، إذ قالوا لهم الآليون الذين يضعون القانون لهم إن كل هذا لمصلحة البشر، وهم فعلًا يفعلون ما طلب الإنسان منهم، لكن الآلة هي آلة، ستعمل على مكننة كل شيء، إلى درجة انتفاء المتعة.

"ربّاه!"، قال راضْ بصوت عالٍ، "إنك فعلًا تحتاج إلى بعض القش يا نبيه"، ثم أفلت هرّه طاحون يتحرك في أرجاء السطح. تمطّى هذا الأخير ولحس وبره البرتقالي، وراح يشمّ زوايا السطح وينظر إلى الطيور نظرة تقدير لجمال أجنحتها الملوّنة لا تخلو من اشتهائه صيدها،  لم يعد الهرّ ملزمًا بحسن التصرف، بينما هذا الآلي في الأرجاء وكل مراده أن يبقى الحمام بأفضل حال.

* التصورات حول مَكْنَنَة هواية تربية الحَمَام في هذا النص، يستند معظمها إلى محادثة مطوّلة عن الموضوع بين الكاتب وChatGPT.

____________________

1 نبيه وردان هو الحميماتيّ بطل رواية "الممر اللامألوف" لكاتب هذا النصّ.

كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة

لمزيد من التفاصيل أنقر هنا
Patreon support button