* كُتِبَ هذا المقال في منتصف شهر نوفمبر 2022 وكان من المفترض أن يُنشر قبل انطلاق بطولة كأس العالم لكرة القدم، ولكن العدد تأخّر وحصل ما حصل… يا أندردوغ
لم أحتر يوماً حول لمن أعطي ولائي الكروي على مستوى النادي، فقد ولدت كرماوياً، ورثت هذا الولاء للنادي الحمصي من والدي، حيث كبرت معتاداً على أن يذهب بي إلى الملعب، يضعني على كتفَيه ونشجّع سوية. وعندما يحرز أحد لاعبي فريق الكرامة هدفاً، تقوم الدنيا ولا تقعد بينما أنا أبقى على كتفَي والدي الذي يرقص فرحاً، وأنا أرقص معه، أردت أو لم أرد. وكانت ذاكرتي الأولى الأكثر وضوحاً في رأسي هي عندما ربح فريق الكرامة اللعبة الحاسمة مع فريق الحرية الحلبي، ما ضمن له النقاط التي حسمت الدوري السوري الممتاز ونال فيه لقب البطل، كان ذلك عام 1996، ولم ينل اللقب مرة أخرى إلا بعد ما يقارب العشرة مواسم.
غير أن ما تركني دائماً حائراً خلال كل المونديالات التي شهدتها في حياتي، هو لمن أعطي ولائي، من أشجّع، حيث هنا المسألة وطنية بحتة، منتخبات بلاد تتنافس بين بعضها لنيل كأس العالم، وشخص مثلي من بلد لا يحلم أن يلعب دقيقة واحدة في المونديال، لن يتخلص من هذه الحيرة ويشجّع منتخب بلاده، لهذا كنت دوماً في كل مونديال يتقاطع مع مرحلة معيّنة من حياتي، أقف في صف منتخب مختلف، مرة فرنسا، مرة هولندا... غالباً من باب حبّي للاعبين معيّنين يلعبون في هذه المنتخبات، لكن ولا مرة كنت واثقاً من وقوفي هذا.
ثم مرت الأيام، وتغيرت الأمور إلى الأسوأ، وشغفي بالكرة ذبُل، حيث انشغلت بمئات الهموم، وكرة القدم في سوريا اختلطت بالمواقف السياسية النذلة أكثر وأكثر بعد الثورة، ما جعلني أنفر منها، وصار نادي الكرامة في أسوأ أحواله، وما زال ينحدر، وهذا لا يعني أن ولائي له قد راح، فما زلت أتتبّع أخباره، وأعتز بتاريخه، ولم يعد يربطني بكرة القدم في تلك المرحلة سوى المونديال قبل أن أعاود شغفي. فمرّ مونديال 2014 عليّ خطفاً، حتى أني لا أتذكر من نال الكأس. إلّا أن مونديال 2018 كان منعطفًا.
في ذاك العام تغيّر وعيي كلياً، صرت أكثر نضوجاً، وبدأت أفهم أكثر زواريب كرة القدم، وبدأتُ أنفر من الانجرار الجماعي اتجاه تشجيع منتخبات معيّنة كلاسيكية. وفي الوقت ذاته اكتشفت مصطلح الأندردوغ (Underdog)، أي المستضعَف، الشخص الذي ليس له مكانة رفيعة في المجتمع، المنافس الذي يدخل المنافسة حاملاً فرصة ضئيلة بالفوز، وصرت أمشي معه، معتبراً نفسي ومعظم الذين أعرفهم أندردوغ، وطبّقت هذا أيضاً على كرة القدم، والمونديال تحديداً.
إنها لعبة جادة، لعبة مواقف غالباً، ومعظمنا يعرف أن مباراة كرة قدم واحدة ممكن أن تتحول إلى أرض معركة بين بلدَين يكنّان العداء لبعضهما، مثلما حدث بين السلفادور وهندوراس عام 1969، حيث كان البلدان في علاقة متوترة، ثم وقعت مباراة حاسمة ليتأهّل أحدهما إلى كأس العالم في المكسيك أدت إلى حرب بينهما دامت 100 ساعة. أو الصراع التاريخي بين ريال مدريد وبرشلونة الذي يمتد منذ الحرب الأهلية الإسبانية، عندما تبنّى الديكتاتور فرانكو نادي ريال مدريد، ومثّل نادي برشلونة الثورة والإقليم الكاتالوني. أو عندما اغتيل رئيس نادٍ سوفياتي لمجرد أنه فاز على نادٍ مملوك من المخابرات السوفياتية، والحديث يطول عن أمور كهذه.
الفكرة هي أن يفتح المرء عينَيه أكثر، ويتابع لكي يفهم ما يحدث خارج تلك الياردات الـ 120 من العشب الأخضر، ويلمس كم أن الحدث مجبول بالسياسة والمال والهيمنة، لكي تتغير مواقفه تماماً، كأن يتقصّد مشاهدة المبارَيات عن طريق البث المقرصن على الإنترنت، بدل أن يُنفّع حيتان المال الذين حرموا الناس من البطولة باحتكارهم بثّها. وقد يرى ذلك قابلاً للتطبيق في حياته اليومية، كأن يقف مع العامل المياوم في وجه رب العمل المكشّر عن أسنانه الذهبية؛ أو أن يشتري من شخص يجلس أمام صناديق خضروات في زاوية الشارع، بدل أن يدخل إلى الدكاكين العملاقة لشراء حاجاته.
فهذا النوع من التضامن قد يُحدث فرقاً، ويريح المستضعَفين من الجري وراء مستضعفيهم، أملاً في أن يصبحوا مثلهم يوماً، علماً أن هؤلاء الأخيرين لن يسمحوا لهم بذلك. فالصراع مرسوم المعالم والقوانين، ولن يستغني فيه أحد عن الكرسي الفخم الذي يجلس عليه، ليحلّ محل فقراء على صبّة باطون خشنة.
إذاً الطريقة الوحيدة هي أن يستدير الأندروغ إلى أخيه الأندروغ، ويسيرا معاً كمحاولة لتغيير المعادلة، متخلصين من فكرة الهيمنة، ومؤمنين بفكرة أن يحق للجميع الفوز والهزيمة، طالما أن لا أحد يأكل خبز الآخر ويرسله إلى القاع ثم يغلق الباب عليه.
وعليه، حين ينظر المرء بعدسة مختلفة، ربما سيبحث، إلى جانب الاستمتاع باللعب، عمّن يستحق دعمه، ولو بالمشاهدة عبر الشاشة، وأن يجيب: "أنا مع الأندردوغ"، إن أحداً سأله: "مين عم تشجّع؟" فالوقوف مع المستضعَف هو موقف، وأن يخسر منتخب بلد استعماري بطوله وعرضه مثل فرنسا، أمام منتخب بلد أفريقي منهوب مثل السنغال، لا بد أن يُفرح المستضعَفين ويطيّب خواطرهم، شرط أن يعودوا الى واقع أن اللعب يبقى لعباً في نهاية المطاف… وهو الامر الذي يدعو كل أندردوغ الى تحديد الأندردوغ الآخر الذي يريد التعاطف والتضامن معه.
وهو الأمر نفسه الذي جعلني أودّ أن أرى في المونديال (الأخير) منتخبات بلاد مهيمنة، يمرمَغ مرماها بالأهداف التي تسجّلها منتخبات بلاد لا حول لها ولا قوة سوى أن ترد اعتبارها عن طريق مباراة كرة قدم.
وبالنسبة إليّ لم تعد المسألة تتعلق بمن سيربح الكأس، بقدر ما تتعلق بكم منتخب أندردوغ سيهزم منتخبات رغيدة مرموقة، فتتذوق دولها الهزيمة لعلّها تشعر بخيبات الشعوب المستضعَفة. وفي المقابل، تتذوق دول الأندردوغ طعم الانتصار ولو من خلال مباراة كرة قدم… فيذوق الأندردوغيون في العالم المذاق ذاته معاً في لحظة واحدة، عندما تفوز تونس مثلاً على فرنسا في ٣٠ نوفمبر*.
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة