في كتابه الطريف ”تدبير المتوحّد“ يتحدّث الفيلسوف ابن باجة (القرن الحادي عشر ميلادي) عن فئة قليلةٍ من الناس يسمّيهم النوابت. فيقول عن النابت أنّه ذاك الذي وقع على علمٍ صوابٍ، ورأيٍ صادقٍ لم يوجدا في المدينة (أو الدولة). وهو أيضًا "من يرى غير رأي أهل مدينته". وسمّى ابن باجة هؤلاء بالنوابت لأنّهم يشبهون العشب النابت من تلقاء نفسه بين الزرع. والنوابت هم الّذين يعنيهم الصوفية بقولهم الغرباء، لأنّهم وإن كانوا في أوطانهم وبين أترابهم وجيرانهم، لكنّهم غرباء في آرائهم قد "سافروا بأفكارهم إلى مراتب أخرى هي لهم كالأوطان".
ويدعو ابن باجة النابت إلى اعتزال الناس ما أمكنه ذلك، وألّا يخالطهم إلّا في ما هو ضروريّ، ولكنّه لا يذهب حدّ المبالغة والتطرّف في ترك شؤون العالم الأرضي الجسمانيّ الزائل، وهو عالم هؤلاء الناس العوام المنغمسين في لذائذهم الجسمانية، بل هو يرى أنّ العيش في المدينة والعمل على إصلاحها لا غنى عنه من أجل تهيئة شروط المدينة الفاضلة. وإذا كان ابن باجة تطرّق في كتابه الآنف الذكر إلى ما يمكن للنابت المتوحّد القيام به لتدبير شؤونه بنفسه، فإنّه ربط هذا التدبير الذاتيّ، وهو في تعريفه يعني "ترتيب الأفعال نحو غايةٍ مقصودة"، بحركةٍ تصاعديةٍ تلاقي في نهاية المطاف تدبير المدينة.
وهكذا، فالنوابت، أو المتوحدّون، وإنْ كانوا استثناء، هم توطئة للمدينة الفاضلة، وأمل خلاصها. وهم يتحمّلون إذًا مسؤولية تحرير المدينة أو المجتمع من الشقاء والظلم، ومن الغايات الزائفة كاللذة والسلطة. ولا يشعر النابت أو المتوحد بالغربة والغرابة في مدينته "الجاهلة" و"الناقصة" إلّا ليصنع من هذه الغربة أسلوبًا متفرّدًا حرًّا مقصده "العودة" إلى المدينة. (هل يذكرنا ذلك بـ"زرداشت" نيتشه؟)
إلى حدّ بعيد، تصحّ مواصفات نابت ابن باجة على مواصفات اللامنتمي اليوم، رغم المسافة الزمنية البعيدة. واللاانتماء العصريّ فيه الكثير من الاغتراب والأجنبة والاعتزال عن الجماعة والمجتمع، كما يشعر اللامنتمون واللامنتميات غالبًا، وعن وعيٍ أو من دونه، بشيءٍ من التميّز والترفّع، ويبدو أحيانًا ألّا أحدًا يفهم لغتهم ومرادهم وشكواهم وأحلامهم.
وينبغي أن نضيف على ابن باجة أنّ مِن اللامنتمين من يجد نفسه مدفوعًا إلى اللاانتماء والشعور بالغربة، لا رغبةً منه بل لعجز مدينته (عائلته ومجتمعه ووطنه) عن القبول به كما هو. وهذه حال الكثيرين اليوم ممّن يريدون حقًا الانتماء ولكنّهم لا يجدون شروطًا لتحقيق ذلك. إنّها حال الأقليات المضطهَدة مثلاً. ويصحّ على هذا اللاانتماء توصيفه بالقسريّ أو الإكراهيّ، ولكنّنا في مقالنا هذا سنركّزعلى الانتماء القصديّ أو الإراديّ (إلى هذا الحدّ أو ذاك طالما أنّ إرادة الاختيار مشروطة بعوامل كثيرة تخرج عن معرفة الفرد وتحكّمه).
ولكن، أيّاً كانت حالة اللامنتمي ففيها أيضًا بحثٌ عن الذات الضائعة وسط الجموع، عن الفرد الحرّ وسط الغالبية المستسلِمة والمرتاحة إلى بؤسها ومسلّماتها مسلِّمةً قدرها إلى من استطاع قيادتها وتوجيهها كما يشاء، شرط منحها شيئًا من الأمان والطمأنينة وبعض وسائل تدبير الحال.
بطريقةٍ أو بأخرى، يبحث اللامنتمون عن مجتمعٍ آخرٍ أو جديدٍ يكون مرآةً لهم، وإن أنكروا هذا البحث ولكنّ رفضهم لما هو موجود يُضمِر بحثًا عمّا هو ممكن الوجود.
يتبدّى ذلك مثلاً في العمل السياسيّ، فبعد أن كان اللامنتميّ أو اللامنتمية منخرطًا، وبحماسةٍ وشجاعةٍ، في الفعل السياسيّ والصراعات السياسية والاجتماعية، سواء عبر أحزابٍ أو تجمعاتٍ، وبعد أن كان قريبًا من المجتمع الذي ينتمي إليه، نجده بعد هزيمة ما يحمله من مشروعٍ سياسيّ أو اجتماعيّ، أي هزيمة مشروعه الممكن الوجود، نجده منكفئًا ومنسحبًا "من المعركة". ويطول انسحابه وينمو ليصبح لاانتماءً في نهاية المطاف.
ويجرّ اللاانتماء في السياسة معه ضروبًا من المواقف الفكرية والعملية، منها التبرّؤ من "الأيديولوجيا" مهما كانت لأنّ الأيديولوجيا تنطوي على التزامٍ وانخراطٍ مع آخرين نريد تعبئتهم وكسبهم إلى "معسكرنا". ومن دواعي التبرّؤ فقدان الأمل بـ"الناس"، بالآخرين، بالمجتمع الذي يحيط بنا، بالـ"بلد". ومنها أيضًا رؤية العالم وفق ثنائية "من يعلمون ومن لا يعلمون" (بالطبع اللامنتمون دائمًا يعلمون! وادّعاء امتلاك المعرفة هذه بحثٌ آخر)... ولكنّها في نهاية المطاف تصبّ كلّها في خانة التسليم بما هو موجود (يسمّيها البعض واقعية وعقلانية)، أو الاشمئزاز منه أو الحقد عليه.
ما سلف يشير إلى أنّ اللاانتماء إلى العالم وليدُ أزمة في هذا العالم، أزمة في العلاقات التي تربط الناس أعضاء المجتمع، ومن ثمّ هي أزمة سياسية. والمعلوم أنّ الميول الانعزالية الانسحابية تزدهر عند هزيمة وتراجع معسكر الثورة الاجتماعية أو الإصلاح الجذريّ. فيلجأ كثيرون ممّن كانوا منخرطين بقوّة في هذا المعسكر إلى التنحّي جانبًا، فاقدين انتماءهم إلى العالم وإيمانهم به. وهذا ما يجعل من اللامنتمي العصريّ داعيةً للتشاؤم والعدمية، ومن المبشرّين باللامبالاة السياسية، ولا يرى نفسه حاملاً رسالةَ تحريرٍ أو خلاصٍ أو مقاومة، فقد كفّ عن الاعتقاد بيوتوبيا ما، وبالتحديد تلك الجماعية. والمتخيَّل الوحيد الذي يمكنه إرضاءه هو "الفرد الواحد الأحد الوحيد بمفرده" الذي عاف الناس والعالم!
نختم لنقول إنّ صورة اللامنتمي تبدو جذّابةً ومغرية ولكنّها قد تكون في الغالب متوَهَمة وزائفة. متوهمة إذا اعتقد من ادّعى اللاانتماء أنّه بالمطلق "لا ينتمي"، وكأنّ الخيار أصلاً بيده ألاّ ينتمي إلى طبقةٍ اجتماعيةٍ وشروطٍ تاريخية سبقته؛ وزائفة لأنّ الكثيرين من "نوابت" العصر ولامنتميه هم أكثرهم تعلقًا بالقيم السائدة والتقاليد الدارجة ولكنّهم يريدون ببساطةٍ تمييز أنفسهم عمّا يسمّونه بالـ"قطيع" تحقيرًا.
ومع ذلك، وبالعودة إلى ابن باجة، يبدو لنا أنّ اللاانتماء قد يصبح دعوةً واعيةً وقصديةً لتدبير الذات في نوعٍ من الانسحاب التكتيكيّ من أرض المعركة، من أجل مزيدٍ من التكسّب المعرفيّ والإعداد الذهنيّ والمراجعة النقدية، من أجل عودة أقوى وأكثر تفاؤلًا إلى العالم، ليكون اللاانتماء وسيلةً للانتماء.
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة