العالم كلّه مكَنة ضخمة وجميع ما فيه مكناتٌ متحرّكة، تترابط عبر سيول من الطاقة المتبادلة. في هذا العالم المكَني، في هذه المكَنة نحنُ، بني وبنات البشر، مكَناتٌ أيضًا، وجوّاتنا مكنات أخرى، وفيها مكنات إلى ما لا نهاية له من العوالم المكَنية المتعالقة. أحسبُ أنّ هذا التوصيف ليس مجازًا أو تشبيهًا شكليًا، وأعتقدُ أنّ فيلسوفًا، كان صاحب بصيرةٍ، مثل سبينوزا قد أجاد تفكيرًا عندما تأمّل الوجود، والانسانَ فيه، على النمط الهندسيّ مقتربًا من جعل اللـه (الطبيعة) مكَنة لانهائية، ومن الانسان مكَنة محدودة الأجل تحرّكها قوّةٌ أو طاقةٌ هي الكوناتوس أو المُكنة. لم يكن سبينوزا سبّاقًا في ذلك التصوّر، فقد سبقه فلاسفة من بلاد المشرق الخصيب متحدّثين عن الكون كجسدٍ بأعضاء متفاوتة الرتبة والمكانة ولكنّها، في سعيها إلى الكمال، تتناسق في حراكاتها ووظائفها، لتصبح، بعدئذٍ، قادرةً على بلوغ خالق المكنات كلّها، المحرّك الذي لا يتحرّك كما قال أرسطو. هذا المحرّك الذي "دفع" الكون ليأخذ شكله الحالي، مكَنة دينامية لا نهاية لحركتها.
مخيالٌ جميلٌ وأكاد أجزم أنّ عصر ما يسمّى بالذكاء الاصطناعيّ (لماذا ذكاء وليس قدرة مثلاً؟)، صار يُظهر العالم على حقيقته هذه، أي بوصفه مكَنة ضخمة فيها ما لا ينتهي من المكنات الأصغر، ولكن هذه المرّة على المستوى الميكرويّ، أي على مستوى صغائر كائناته، منها البشر. وإذا كنّا كبشرٍ مكناتٍ، وأدمغتنا مكوّنة من مكناتٌ متناهية الصغر، ومجتمعاتنا أجسادٌ مكَنيةٌ متحرّكة، وكلّ ما سبق متعالقٌ بعلاقاتٍ ديالكتيكية (بالإذن من هيغل)، هل يصحّ، بعدئذٍ، التحدّث عن حريةٍ ما؟ فإذا كنتُ مكَنة تنطبق عليَّ قوانين الكون بانتظامها، وتدفعني إلى السلوك سلسلةٌ لامتناهيةٌ من العلل والمسببّات والدوافع، لا بل المحرّكات الصغيرة والكبيرة، التي أجهلها، وإذا كان الكوناتوس في داخلي قوّةٌ غير مُدرَكة وعمياء تحرّكني لأستمرّ بالبقاء، إذا كانت الأحوال على هذا النحو، فهل يصحّ التحدّث عن حريةٍ ما أملكها؟
أزعم أنّ سؤال الحرية إذا نظرنا إليها من ناحية الإرادة: أريد الشيء أو أريد فعل هذا الشيء أو ذاك، لا ينسجم مع الوجود كمكَنة على ما أسلفت. الحرية تتعلّق بالقدرة، أو المُكنة (وتنتمي كلمتا المكنة والمُكنة إلى ذات المصدر)، وعلى هذا يستقيم سؤال الحرية في عالمٍ مكَنيّ، وفي وجودٍ بشريّ جوهره مكَنيّ يتحرّك وينتج ويبني ويدمّر بفعل سلسلات لامتناهية من العلل المجهولة بأغلبها! ولو فكّرنا مكنيًا بوجودنا لتبيّن لنا أنّ غياب الحرية، بوصفها إرادة على الفعل، هو تحصيل حاصل، إذ أنّ كوننا ماكِنات متحرّكة يعني أنّ حريتنا معدومة طالما كلّ ما نريده لا ينبع حقًّا، كما درجنا على الاعتقاد، عن إرادتنا الحرّة المزعومة طبعًا.
أزعم أنّ حريتنا طالما تُعاد إلى القدرة، أي تنبع عن قدرتنا كمكنات تولّد مكناتٍ أخرى، ولكنّها، لكي تستحقّ صفة الحرية، قدرةٌ مخرِّبة لأنساق منتظمة من مكنات اجتماعية وسياسية واقتصادية وثقافية معيارية كبرى. وعليه، الحرية هي مكَنة تسير، في انتاجيتها، على نحوٍ متكسّر، وهي مكَنة معطَّلة تخطّ مسارها بالاختلاف مع المكَنات الأخرى التي ترتبط بها. وهي متفلّتة، شقية، فصامية، عصابية، مجنونة، وغير "عقلانية"، بلا غايةٍ إلاّ توليد ما يشبهها، ولا تخضع لضرب من حسابات "منطقية" سائدة كما يحصل في حالة المكنات الانتظامية، محتومة المسار، ومعلومة الغاية ومعقلنة الحرَكة.
الحرية مكَنة صغرى أو أقلوية (بوصف دولوز، أي ليست بحسب النمط السائد للمعايير والنماذج) تخرّب السير "الآلي" و"الطبيعيّ" المنتظم للمكَنات الأخرى، والمعركة من أجل الحرية، سواء أدركنا ذلك أم لم ندرك، هي حرب مكنات، بقدر ما الحرية مكنة حرب مستمرة إلى أجلٍ غير معلوم، كما أنّها صراع على صناعة مكناتٍ أخرى وتعميمها. فإذا فكّرنا على هذا النحو يبدو أمامنا المشهد التالي: مكَنة استعبادية منتظِمة تولّد مكنات تشبهها، وفي مقابلها مكنة انعتاقية متفلّتة تولّد أيضًا مكناتٍ تلائمها، والصراع بين المكنتين صراع مُكناتٍ وقدرات واستطاعاتٍ وليس إراداتٍ مجرّدة.
ينبغي، في هذا السياق، التأمّل بظاهرات مستجدّة مثل الشات جي بي تي والروبوتات البشرية (وقبلها الكومبيوترات وغيرها من ابتكارات العصر الرقميّ) خارج نموذج الأداة أو الوسيلة المجرّدة عن مضامينٍ تعكس كيف تسير مكنة العالم الرأسمالي اليوم، أي بوصفها مكنة انتظام لتدفّق السلع ولكن أيضًا مكنة ترتيب للقوى الاجتماعية على نحوٍ متفاوتٍ بالضرورة. وعلى الرغم من التحدّث عن مأساة فرنكشتانية ما مختزنة في هذه الابتكارات الذكية "الثورية"، لا تخرج هذه الابتكارات برأينا عن كونها تجهيزاتٍ تسير على منوال إعادة انتاج الوضع القائم. فهي ليست بالمرّة تمرّدية أو تخريبية، بل بالعكس تمامًا، شديدة الانتظام والإدماج، إذا تولّدت عن مكناتٍ سالفةٍ لها تماثلها، وتقوى انتظاميتها (ومن ثمَّ رجعيتها) بمقدار القدرات المعزَّزة التي تمتلكها. وهكذا، تزيد رقابةً على رقابة وتحكّمًا على تحكّم، وتعطيلاً لقدرة الانعتاق البشريّ! فهل يقتضي التحرّر من مكنة الرأسمالية الحالية أو تخريبها السعي إلى تخريب هذه الابتكارات أو تعطيلها أو التخلّي عن "استعمالها"؟ ربّما. ولكنّ المؤكّد أنّ أيّ مشروع ثوري للبشر يتعارض مع المنطق المكَني للرأسمالية وابتكارتها لا بدّ أن يأخذ بالاعتبار كيفية تعزيز قدرات القائمين والقائمات به على خلق مكنات ثورية تخريبية وإبداعية حقًّا، بمعنى أنّها قادرة، إذا هيمنت، على خلق العوالم التي يحيا البشر في كنفها من جديد وفق منطقٍ لا يعيد انتاج التكرار الاستلابيّ والاصطناع "الاستعباديّ".
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة