فلنفكّر بالهجرة المألوفة. يترك الناسُ بلدًا ليستوطنوا آخرَ، ويستبدلون إقامةً بأخرى، ويعتنقون هويةً مستجدةً، وينتقلون من خضوعٍ لنظامٍ أو نسقٍ سياسيّ – قانونيّ إلى قبولٍ بنسقٍ طارىءٍ. يريد الناس الخلاصَ، وبعضهم "يحالفه حظٌّ" وبعضٌ آخرٌ، وهو الأعم الأغلب، يصطدم بحدودٍ وحرّاسها، ليظلَّ في حالةِ انتظارٍ لخلاصٍ من "جحيمِ" حربٍ أو شروطٍ حياتيةٍ لا تُحتمَل، ولـ"فردوسٍ" موعودٍ في أرضٍ أخرى.
في كلّ الأحوال، ومهما كانت مآل السعي للجوء وحطّ الرحال، سواء انتهت الهجرة على نحوها "الشرعيّ" أم انتهى المهاجرون إلى حالةٍ من "اللاشرعية" تشبه السديم في عالمٍ واضح المعالم، يبقى أنّ الهجرة هذه لا تفعل سوى إعادة إنتاج شروطها، أو بالأحرى شرطيها الرئيسين: رأس المال والدولة.
يقتلع رأس المال البشرَ من موطنهم الأولى ليعيد توزيعهم في مواطنَ جديدة، وليدمجهم في منطق أسواقه وطبقاته ودورانه وتراكماته. إنّ لزمان رأس المال سلطةَ إعادة تأسيس مصير المهاجرين/ات بوصفهم جيشًا احتياطيًا عالميًا للعمل وللاخضاع يمكن استثماره في توليد أرباحٍ إضافيةٍ تجدّد شروط بقاء النسق العالمي بأكمله.
تعيدُ الدولة المضيفة تشفيرَ من وفد من مراتب المهاجرين/ات، وتستولي على حركة جسده/ها، وتتحكم بذهنه وتراقب أهوائه. هذه الدولة الّتي تبحث عن موضوعاتٍ لعنفها الخاصّ والمتميز، أو عن كبش فداءٍ لسياساتها في التضحية بالبشر على مذبح القوّة. ولذا تستقبل القادمين الجدد لتتملكهم وقدراتهم كما تستثمر في امتلاك مواطنيها الأصليين! لا فرق إن كانت الدولة "ديمقراطية" أو لم تكن، إذ ماهيتها واحدة: آلةُ استيلاء وتحكّمٍ.
أمّا عن أفواج المهاجرين "اللاشرعيين"، فإنّ لاشرعيتهم هذه لا تصدر عن قانونٍ دوليّ ينظّم أوضاعهم، بقدر ما تنشأ عن حدود دورةِ رأس المال، أو عن توقّفٍ في رغبة الدولة المضيفة في الاستيلاء على أجسادٍ فائضة. ومن ثمّ، فإنّ جدل الشرعي وغير الشرعي لا يتأسس على فعل المهاجرين/ات وتوصيفه قانونيًا بقدر ما يصدر عن انسدادٍ في زمان آلةِ رأس المال، وعن انغلاقٍ في مكانية الدولة وأجهزتها.
إنَّ المنطق الاستغلاليَّ البحت يحكم التعاملَ مع المهاجرين الّذين لا ينظر إليهم إلاّ كمشروعٍ استثماريٍّ يخدم مراكز القوّة في الدولة المضيفة. ولو بدا في الظاهرِ أنّ المهاجرين يغادرون دولةً إلى أخرى ولكنّ واقع الحال هو أنّهم لا يغادرون النظام العام الذي يرزحون تحته في يومياتهم بقدرِ ما ينقلون قوّة عملهم من ربِّ عملٍ("وطنيّ") إلى آخرٍ("أجنبيّ")، وقوّة بقائهم من نهجِ مراقبةٍ وتحكّمٍ محليّ إلى آخرٍ كونيٍّ أقوى وأشمل.
وإذا أردنا هنا أن نفلسف الهجرة، ستصبح، في قولنا، بقاءً في الجغرافيا نفسها، وخضوعًا للزمان الاجتماعيّ والسياسيّ عينه. وستكفّ عن كونها هجرةً حركية حتى لو تبدّل اسم المكان وتوقيتات الزمان. إنّ فضاء النسق العالميّ يكرّر ويماثلُ نفسه أينما توطنّ البشر، لأنّ الفضاء واحدٌ أحدٌ هو فضاء رأس المال/الدولة في شروطه الإنتاجية/الاستهلاكية وآليات تحكّمه برغبات البشر.
الهجرة، وفق الآلة الرأسماليّة الكونية، ليست سوى التحاقًا بمكان وزمان وشروط الإنتاج والتوزيع والاستهلاك، أي هي، بمعنى أو بآخر، المراوحة في الفضاء الزمني والمكانيّ عينه، ولكنّها مراوحة تتخفّى تحت الصورة المبهرجة لفردوس منتظَر يتحرّك البشر إليه.
وهاكم ما معنى الترحال. على اختلافٍ مع الهجرة، يبدو الترحالُ تأسيسًا لمنطقٍ يعاكس منطق رأس المال، ولفضاءٍ بجغرافيةٍ تناقض مكانية الدولة. الترحاليون عابرون دائمًا، لا حدود أوطانٍ تعيق حركة أجسادهم/أفكارهم، وهم الفارّون من آليات التشفير ومن مقابض الاستيلاء. الترحال، وعلى عكس الهجرة أيضًا، لا يشترط انتقالاً في المكان أو من دولةٍ الى اخرى أو من حدودٍ إلى حدود، ولكنّه يستحدث جغرافيته المميّزة ولو في المكان عينه (مثل كانط الذي لم يترك بلدته!) ، وهي جغرافيا مبتكرة فكرية/انفعالية في المقام الأول (ألا يرسم الفنّ مثلاً جغرافيا جديدة لحركة الانفعال والتفكير؟).
الفكر لا يستقرّ في وطنٍ، تمامًا مثل حيوات الترحال البدو أو الصعاليك أو الغجر الّذين يفيضون عن الأوطان. وهم محطّمو أوثان الهوية الأولى وأصنام الأصول والسلالات. هؤلاء لا يقولبهم انتماءٌ أصليٌّ ونوستالجياتٌ زائفة!
زمنُ الترحاليّ بدويٌ وفوضويّ وعشوائيٌ ومجهول الأفق كما كان زمن التصوّف عاموديًا، وكما يبدو زمنُ الثورة عشوائيًا. ليس زمن الترحالي أفقيًا ولا صلبًا أو مستقرًا ولا حتى معلوم المصير (على شاكلةِ زمن الأيديولوجيات الدنيوية والدينية مثلا)؛ وقد تكون حدوده وجغرافيته بلا خرائط، ويقينًا أنها بلا أراضٍ محزّزةٍ تفصل خارجًا عن داخلٍ (جغرافيا الحرية مقابل جغرافيا الفاشية).
الترحاليّ يتيمٌ بلا وجهٍ ولا اسمٍ ولا بصمةٍ، ولا جذرٍ أو تربةٍ أصلية، فهو من يخطّ طريق رحلته او نزهته الأبدية بلا عودة أو حنينٍ حزين. وإذا كان المهاجر، وهو من أهل الحضَر، يريد المبيت في مركزٍ أو يريد العودة إلى مركزه الأول وأسياده المألوفين له، فالترحاليّ، وهو من نسل البداوةِ، لا يتوقف عن المرور من هامشٍ إلى آخر، ذلك لأنّ رغبته تسير من تخمٍ إلى آخرٍ من دون أن تدخل أرض التوحيد والتراتبية ("لا آلهة ولا أسياد").
الترحاليّ لا يركن إلى حيّزٍ، وأينما حطّ رحاله سارع الى المغادرة، ليستحيل على دولةٍ امتلاكه. والترحال زمانٌ للفكر مطلقٌ، أو بالأحرى لا زمان له سوى في مفارقةٍ وحدث، والحدثُ مفاجأةٌ تزعزع إدراكنا للمكان والزمان والوجود بكليته. وإذا كان زمان رأس المال خطّيًا ممأسسًا بحسب زمن الإنتاج والاستهلاك، فلازمانية الترحال تتخطّى ماضٍ وحاضرٍ ومستقبلٍ لتكسر أنماط الإدراك التمثيلية القسرية. هكذا، يرتسم الترحال نقيضًا للهجرةِ كما نألفها، فهذه تعيد توطين الجسد والفكر وفق منطقٍ مرسومٍ سلفًا بشروط رأس المال والدولة، وذاك نزهةٌ دائمةٌ، أو سفرٌ مطلق بلا أرض أو وطنٍ وتوطينٍ، وفعل مقاومةٍ لا يتوقف عن الفرار.
أن نرتحل معناه أن نفعّل قدراتنا على مقاومةِ أنساق القوّة والتسليع والاستلاب، وأن نمارس فعلَ رفضٍ لأحادية الانتماءات، وأن نغادرَ أنفسنا ونهجّر ذواتنا ونبتكرها مرارًا. الارتحال هجرةٌ فعليةٌ تضادُ الهجرةُ الّتي ولّدها النسق العالميّ من أجل تجديد بقائه. وأيًّا كان "الوطن" الّذي يجد المهاجر/ة نفسه/ا فيه (وهنا، مرّةً أخرى، لا فرق إن انتقل المرءُ من بلدٍ إلى آخر أم بقيَ في غرفته إلى يوم مماته)، فإنّ ارتحاله يعني أن يلغي شروط الوجود القسريّ هذا، لينفتح على مساحاتٍ جديدةٍ من التحرّر والابداع.
الصورة لـ: دوروثي لانغ
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة