- عندما نقولُ إنّنا استهلكنا شيئًا ما، فليكن مثلاً هذا الهاتف بين يديك، نعني في ما نعنيه أنّنا نستنفدُ الغرضَ منه، وبمعنى آخر ننهيه. ومن المعلوم أنّ من الأشياء الّتي نستهلكها بعضها نجهدُ للحفاظِ عليه (ومن المفارقة في اللغة العربية أنّ فعل "هلك" وهو جذر فعل استهلك يفيد الزوال والفناء، ولكنّه أيضًا يفيد الحرص على الشيء) لأطوَل مدّةٍ ممكنةٍ؛ وبعضها الآخر، نستهلكه سريعًا. هذا لا يتّصل فقط بطبيعة ما نستهلكه، بل أيضًا بالـ"منفعة" الاجتماعية له. وعلى أيّة حال، ولأنّ الاستهلاك شرطُ ضروريّ لاستمرار الحياة في "سيستام" رأس المال، لا نكفّ عن الاستهلاك، وعن استبدال بضاعةٍ بأخرى، في ما يشبه دائرةٍ مغلقة ندور فيها نحنُ والبضائع، نستهلكها بقدر ما تستهلكنا هي أيضًا. نستهلكُ كلّ شيءٍ إلاّ فكرة الاستهلاك ذاتها.
- ليس الأمرُ مجرّد تلاعب لفظيّ أو استعارةٍ للصفة "مستهلَكة" من لغة البضاعة وأسواقها لنلصقها بمسندٍ إليه هو "الفكرة"؛ فقد صار من البديهيّ، وهي بداهةُ يفرضها قانون رأس المال، أن يميل البشر في عصرنا إلى تسليع كلّ ما يتعلّق بحياتهم الّتي تهيمن على مفاصلها حركةُ تبادل السلع وتسويقها واستهلاكها. هكذا صار يجري التعامل مع الأفكار وكأنّها سلعٌ تُستهلَك بعد أن تنهي دورتها في السوق التبادليّ للكلام والكتابة والخطابات والفنون والآداب. ومثل البضاعة يُصبح للأفكار زمانُ صلاحية يُستنفدُ بعد استنفاد جدواه. ولكثرة المساحات، بالأخصّ الرقمية منها، الّتي تتيح للجميع، على سبيل الافتراض، إشهار أفكارهم وآرائهم و"تسويقها"، فإنّ هذه ستصلُ إلى "مستلهيكن" كثرٍ، ومن ثمَّ ستُستهلَك أكثر. وقد تصبح مدّة صلاحيتها أقصر، وتتحوّل إلى "قولٍ مستهلَكٍ" و"قديمٍ" فاقدٍ لبريقه. في لبنان نقول أحيانًا هي أقوالٌ معلوكة في دلالةٍ على كثرةِ تداولها. والعلكة، السكّرية، حين يزداد علكها، تفقد سكّرها ومذاقها!
- حسنًا. ولكن من المعلوم أنّ الأفكار لا تستحق كلّها أن توصف بالمستهلَكة أو الاستهلاكية بالمعنى الّذي أشرنا إليه، فقط لأنّه يجري تداولها كيفما كان، أو فقط لأنّ حامليها ليسوا من هؤلاء المسارعين إلى الانبهار بما هو رائج و"على الموضة" في الثقافة الجماهيرية أو وسائل الإعلام أو في الإنتاج الأكاديميّ. وحتّى لو حاول الكثيرون استهلاكها بتفريغها من معانيها الفعلية وتشويه مفاعيلها اليوميّة في إعمال الفكر وتوجيه الممارسة، وألصقوا بها تهمة الأيديولوجيا والتطرّف واللاعقلانية، أو حاولوا التقليل من شأنها لأنّها قديمة الطراز وغير عصرية و"تقليدية"، إلاّ أنّ هذه الأفكار تبقى جديرةً بالدفاع عنها وتعزيز تداولها في الفضاءات العامّة والخاصّة. أعني مثلاً الأفكار الّتي تنطوي على قيَمٍ تحرريةٍ ونقديةٍ حقًا، وتنطلق من مواقع المضطهَدين-ات والفئات المهمَّشة والمعنَّفة، وتلك الّتي تظهَّرُ حقيقةَ الواقع الّذي نعيشه من دون توريةٍ أو تنميقٍ. أليس من حماقةِ القول اعتبار أنّ "الصراع الطبقيّ" فكرةٌ مستهلَكةٌ عفا عليها الزمن عندما نشهدُ يوميًا على حقيقةَ هذا الصراع في مجرى صراعتنا من أجل الأجور وشروط العمل والمشاركة السياسية؟ وهل يجوز حقًّا القول إنّ "العنفَ الثوريّ من أجل الحرية" هو أيضًا فكرةٌ متطرّفةٌ وباليةٌ فقط لأنّ البروباغندا الليبرالية "الديمقراطية" سوّقت لذلك؟ لن أتحدّث أكثر وأدافع عن مضامين أفكارٍ ومفاهيم على شاكلة الاشتراكية والشيوعية والتحرر الوطني ومحاربة الامبريالية والاستعمار، فمن الواضح أنّني "إيديولوجيّ" قديم الطراز. فليكن.
- ومع ذلك، سأقلب الآية لأقول إنّه يوجدٌ كمٌ هائلٌ من الأفكار والمقولات الّتي تغزو عقولنا وتستوطنها عنوةً وتصبحُ أشبه بالبديهيات والمسلّمات الّتي لا يجوز المسّ بها، والّتي يجهد أصحابها، بعجميتهم الإنكليزية الأميريكية، بالترويج لها بوصفها "حداثية" و"عصرية" و"نقدية" لا بل حتى "ثورية"! هذه الأفكار، المسوَّقة والمفروضة علينا لأنّنا أينما ولّينا سمعنا سمعناها، هي الّتي تستحق وصفها بأنّها أفكارٌ للاستهلاك، وبأنّها حقًّا مستهلَكة، لا بل تسبب "عسر هضمٍ" حقيقي! فلنغضّ الطرفَ لبرهةٍ عن أفكارٍ معتادةٍ كتلك الّتي فرضتها مؤسسات الحكم التسلطية عن "الوحدة الوطنية" و"الوجدان القوميّ" و"احترام رموز الوطن"، وصنوف الكلام والخطابات الاجتماعية والثقافية عن "خدش الحياء العام" و"تقويض الأسرة" و"تهديد وحدة المجتمع وقداسة الدين" و"تفوّق الرجل فطريًا على النساء" و"اختلاف مزاج الأعراق وذكائها"، وهلمَّ جرًّا من أفكار(أصبحت تنميطات تثير السخرية) دافعت، بكل صلافةٍ ولكن بوضوحٍ كافٍ، عن مواقع قوى رجعية وقهرية وتمييزية وقمعية؛ ولْنلاحظ تلك الأفكار "العصرية"، المبهرَجة والمزركشة و"اللاأيديولوجية" (برغم أنّها أيديولوجية جدًا)، من صنفٍ روَّجَ له ما هبَّ ودبَّ من منشورات "التطوير الذاتيّ"، وكتبٍ بعناوين "كيف تصبح سعيد البال وجميل القوام وغنيَّ المال ومديرًا ناجحًا في عشرة خطواتٍ" أو أقلّ! كما تلك الأفكار الّتي يسوّق لها اليوم "مثقفون"(أنعم وأكرم!) و"ناشطون" يبرعون في استخدام الجمل والأفكار المنمّقة والجذّابة، والمسروقة من قواميس حركات التحرّر، المفرّغة من مضمونها الحقيقيّ، على منوال أفكار "الثورة السلمية" و"القدرة على التعافي" و"المرونة الفكرية" و"محاربة الأيديولوجيات"(طبعًا المقصود هنا الأيديولوجيات الثورية قبل كلّ شيء) و"حلّ النزاعات بالحوار والطرق السلمية" و"التشاركية" و"اللامركزية" و"التشبيك" و"تحرر الجسد" و"التعبير عن الذات" و"مكافحة الفساد" و"الحوكمة الرشيدة" و"الشفافية" وغيرها من خطابات مستجدّة للطبقات الوسطى "المتعلّمة" والبرجوازية "الليبرالية والديمقراطية" الّتي تهوى سياسات الهوية(و"فبركة" الهويات لحجب الطبقات) والّتي تستقي أفكارها "المعاصرة" و"الثورية" و"التقدمية" من خزانة مؤسسات التمويل "الحضارية" الغربية الحريصة على تحرر مجتمعاتنا أكثر منّا، نحن الغارقين بالجهل والأمية والفقر(طبعًا لأن مجتمعاتنا لم تستطع أن تكون رأسمالية بما يكفي، وعليها من أجل أن تتحرر أن تترسمل أكثر فأكثر).
أن نتعامل مع الأفكار بوصفها قابلة للاستنفاد وانتهاء الصلاحية، كما نتعامل مع موضات الثياب والسيارات والهواتف، لا يعكس مرونة فكرية وسهولة في الحوار وتبادل الآراء والنقاش الحرّ، ولا يعكس فهمًا أكبر لقضايانا الاجتماعية يوجب بالضرورةِ لغةً وأفكارًا جديدة ومعاصرة، بل يكشف عن أنّ الأفكار أصبحت مادة للتبادل في لعبة من الرموز والعلامات تعيد إنتاج النظام القائم بوصفه نظام إنتاج السلع وإشباعها.
أن تكون الفكرة مستهلَكة واستهلاكية أو لا تكون هي أولاً مسألة سياسية طالما أن الأفكار ورموزها ولغتها تخفي بنى سياسية واجتماعية ومصالح جماعية واعية أو غير واعية. والرهان النقديّ هو كشف هذه البنى والمصالح واستجلاء مواقعها داخل النظام السائد.
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة
لمزيد من التفاصيل أنقر هنا