"من الضرورة إيجاد شكل من أشكال الاشتراكية تقوم على ملاحظة أن المراتب الهرمية الحالية تحكم على معظم العالم بالبؤس؛ وأن أسلوب الحياة الذي تمليه هذه الترتيبات عقيم وغير أخلاقي، أنه لا أمل في السلام في العالم ما دامت هذه الترتيبات موجودة."
في أوائل الأربعينيات من القرن الماضي، لم يكن جيمس بالدوين قد بلغ الثامنة عشر من عمره عندما انضم إلى رابطة الشباب الاشتراكي في نيويورك، وهي أحد فروع الحزب الاشتراكي الأميركي. مسيرته السياسية بدأت بمشاركته في مسيرة العمال في الواحد من أيار/مايو، الذين جابوا شوارع المدينة حاملين يافطات كُتب عليها: "نريد أحياء أكثر إنسانية!". كان انجذاب بالدوين لليسار أمرًا عمليًا، بناءً على تجربته ونشأته في مساكن هارلم: "لم أكن أعرف شيئًا عن الشيوعية، لكنني كنت أعرف الكثير عن الأحياء الفقيرة".
لم يدم تصوّر بالدوين لنفسه كاشتراكي ناشئ طويلا نتيجة عدم قدرة اليساريين البيض التعامل مع مسألة العرق، مما دفع بالدوين إلى السخرية من السياسة اليسارية باعتبارها مجرد تلقين عقائدي. سيعود بالدوين في النهاية إلى الاشتراكية، لكن العودة استغرقت ثلاثين عامًا وتطلّبت ظهور شكل جديد من السياسات اليسارية المتجسدة في حزب الفهود السود.
ولد بالدوين في مدينة نيويورك في 2 آب/أغسطس 1924، ونشأ في هارلم التي أصبحت مركزًا للحياة الثقافية للسود الفارين من جحيم قوانين جيم كرو في الجنوب إلى المدن الشمالية مثل نيويورك، مما مهّد الطريق لنهضة هارلم. الكساد الاقتصادي الكبير أغرق أحياء السود في فقر مدقع وشوّه طفولة بالدوين الذي كان يمضي معظم وقته في رعاية أشقائه الثمانية الصغار بينما كانت والدته تنظف منازل النساء البورجوازيات البيض.
النفاق الليبرالي
إذا كانت دعوة الفقر هي التي دفعت بالدوين إلى الاشتراكية، فإن تهميش مسألة العنصرية والعرق هي التي دفعته بعيدًا عنها، ومع ذلك، لم يدعم بالدوين أبدًا المكارثية أو أيًا من الحلقات الأميركية الأخرى في مسلسل هيستيريا الحرب الباردة. في كتابه No Name in the Street، يصف بالدوين عودته إلى نيويورك في عام 1952، بعد أربع سنوات في باريس: "كان كلّ شخصٍ تقريبًا يهرع في شوارعها بلا رحمة بحثًا عن ملجأ، كان الأصدقاء يرمون أصدقاءهم إلى الذئاب، ويبررون ذلك باتهامهم بالعمالة للكومنترن (أي اللجنة المركزية للحزب الشيوعي)". بدلاً من دفعه إلى أحضان مناهضي الشيوعية، أعطت المكارثية بالدوين نظرة عامة على النفاق الليبرالي الذي أصبح مألوفًا خلال ذروة حركة الحقوق المدنية، فعلّق على ظاهرة تبرير "ضرورة "احتواء" الشيوعية، لأنها تشكل تهديداً للعالم "الحر"، قائلاً: "لم أقل إلى أي مدى هدّدني هذا العالم الحرّ وهدّد الملايين مثلي. لكنني تساءلت كيف يمكن لتبرير الاستبداد الفاضح وغير العقلاني، على أي مستوى، أن يعمل لصالح الحرية، وتساءلت ما هي الإلحاحات الداخلية غير المعلنة لهؤلاء الناس التي جعلت من الضروري نشر هذا الوهم غير الجذاب تمامًا”.
بعد أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962، عندما كادت سياسة حافة الهاوية الأميركية أن تؤدي إلى حرب نووية، انتقد بالدوين الولايات المتحدة بسبب استمرارها في نشر ما يسمى شبح الشيوعية، ودافع عن حق الشعوب في تقرير المصير. في العام التالي، ألقى بالدوين خطابًا بعنوان “الطفل الزنجي (أعيد طبعه باسم “حديث إلى المعلمين”)، حيث قال إن الولايات المتحدة "مهددة بشدة، ليس من قبل خروتشوف، ولكن من الداخل"، في إشارة إلى فشل الدولة في تلبية مطالب حركة الحقوق المدنية. قارن بالدوين أوهام التفوق الأبيض بأوهام معاداة الشيوعية: "إنه الرجل الأبيض الأميركي الذي فقد قبضته على الواقع منذ مدة طويلة […] بعد أن ابتكر أساطير عن تاريخ الزنوج، وأسطورة حول تاريخه الخاص، ثم ابتكر أساطير عن العالم بحيث، على سبيل المثال، يندهش الشعب الأميركي من أن بعض الناس يفضّلون كاسترو، يندهش لوجود أشخاص في العالم لا يذهبون للاختباء عندما يسمعون كلمة "شيوعية"، يندهشون من أن الشيوعية هي واحدة من حقائق القرن العشرين التي لن نتغلب عليها بالتظاهر بعدم وجودها."
أهمية رحلة بالدوين السياسية أنه وجه سهام نقده إلى الليبراليين السود أيضًا، في مقالة “غيتو هارلم” يذهب بالدوين إلى حد القول: "لا يسعنا إلا أن نلاحظ أن بعض القادة والسياسيين الزنوج يهتمون بوظائفهم أكثر بكثير من اهتمامهم برفاهية الزنوج". إذ لم يكن بالدوين مثقفاً نخبوياً يجلس على الهامش أو بداخل أروقة برج عاجي – لقد أصبح مشاركًا نشطًا في النضال. فنظّم جولات لإلقاء محاضرات وشارك في نقاشات في الجنوب نيابة عن مؤتمر المساواة العرقية. كما شارك في مسيرة واشنطن عام 1963 ومسيرة "سلمى" إلى مونتغمري عام 1965.
ومن خلال نشاطه، تعرف على Medgar Evers و Malcolm X و Martin Luther King Jr. – ثلاثة رجال تم اغتيالهم في 1963 و 1965 و 1968 على التوالي – فتأثّر بهم عاطفياً وسياسياً في الحياة... وفي الموت.
وعندما كان لا يزال يعيش في فرنسا عام 1957، سمع بالدوين عن الإساءات التي تعرضت لها دوروثي كاونتس (طالبة سوداء تبلغ من العمر 15 عامًا من ولاية كارولينا الشمالية، حاولت الالتحاق بمدرسة مدمجة حديثًا). فكتب بالدوين "ببساطة لم يعد بإمكاني الجلوس في باريس لمناقشة مشكلة الجزائريين والأمريكيين السود [...] كان الجميع يدفعون مستحقاتهم، وحان الوقت للعودة إلى المنزل لكي أدفع مستحقاتي".
نحو اشتراكية سوداء
ومع صعود حركة القوة السوداء في أواخر الستينيات، كان مثل العديد من نشطاء الحقوق المدنية، يشكك في استراتيجية حركة الحقوق المدنية القديمة. استمرّ بالدوين بانتقاده نفاق السياسيين الليبراليين طوال الستينيات ومحاولاتهم لاحتواء وتهدئة حركة الحقوق المدنية، وخاصة تعبيراتها الأكثر راديكالية، فنشر أول مجموعة مقالات له في عام 1955، آملاً في إيجاد طريقة سلمية للخروج من العنصرية – وهو الموقف السائد الذي ميّز حركة الحقوق المدنية الليبرالية المبكرة.
بحلول أوائل السبعينيات، انفصل بالدوين عن الليبرالية وأصبح اشتراكيًا راديكاليًا، فعاد إلى التوجهات السياسية التي تبنّاها خلال مراهقته، وقد تطلب الأمر ظهور الفهود السود، الذين دمجوا مناهضة الرأسمالية بشكل مميز مع مناهضة العنصرية.
في معرض تعليقه على أداء حزب الفهود السود ودوريات مراقبة الشرطة المسلحة التابعة للحزب وردّ الدولة القاسي، وصف بالدوين أهداف الحزب الاشتراكية: “يؤمن هيوي (مؤسس الحزب)، وأنا كذلك، بضرورة تأسيس شكل من أشكال الاشتراكية في هذا البلد، اشتراكية تشكّلت استجابة للاحتياجات الحقيقية للشعب الأميركي. هذا ليس موقفًا عقائديًا، بغض النظر عن الصورة التي قد ظهر بها الفهود لتمجيدهم ماو أو تشي أو فانون. لكن من الضرورة إيجاد شكل من أشكال الاشتراكية تقوم على ملاحظة أن المراتب الهرمية الحالية في العالم تحكم على معظم العالم بالبؤس؛ وأن أسلوب الحياة الذي تمليه هذه الترتيبات عقيم وغير أخلاقي، أنه لا أمل في السلام في العالم ما دامت هذه الترتيبات موجودة."
اتخذ بالدوين الآن موقفًا مدافعاً عن الفهود السود الذين تعرّضوا للسجن الممنهج (نيوتن في عام 1967، سيل في عام 1968، إلدريدج كليفر في عام 1968، أنجيلا ديفيس في عام 1970) أو القتل على يد الدولة الأميركية (بوبي هوتون وفريد هامبتون في عام 1968). في عام 1968، استضاف بالدوين حفلة عيد ميلاد نظمها الفهود السود لنيوتن الذي كان محتجزاً آنذاك، وحضرها آلاف المؤيدين. في عام 1970، كتب رسالة مفتوحة إلى أنجيلا ديفيس المعتقلة آنذاك، نُشرت في New York Review of Books: "يجب أن نكافح من أجل حياتك كما لو كانت حياتنا". دعمه للفهود، بعد مشاركته الأكثر صراحة في حركة الحقوق المدنية، جعل حياته أيضاً مهددة من مكتب التحقيقات الفيدرالي.
في عام 1972، سُئل بالدوين عما إذا كانت الولايات المتحدة ستصبح اشتراكية. أوضح رده التأثير العميق الذي أحدثه الفهود عليه، بالإضافة إلى الاتجاه الاشتراكي الذي تبناه حينها: "عليك أن تكون حريصًا جدًا فيما تعنيه بالاشتراكية. عندما أستخدم الكلمة لا أفكر في لينين أو ستالين أو تروتسكي. ليس لدي أي عارضات أزياء ايديولوجية أوروبية في ذهني. إذا تحققت الإشتراكية في الولايات المتحدة ستكون مختلفة تمامًا عن الاشتراكية الصينية أو الاشتراكية الكوبية [...] ثمن أي اشتراكية حقيقية هنا هو القضاء على ما نسميه مشكلة العرق."
بحلول عام 1972، طوّر بالدوين تحليلًا طبقيًا للسلطة، فكتب عن كيف أن "المصالح النفطية الأميركية لا تهتم بالحياة البشرية"، داعياً إلى خلق بديل للرأسمالية مستخدماً التحليل الاقتصادي لفهم العلاقات بين الأعراق: "السود قد جُلبوا إلى هنا كمصدر للعمالة الرخيصة التي كانت لا غنى عنها لتقدم الاقتصاد الأمريكي. من أجل تبرير حقيقة أن السود عوملوا كما لو كانوا حيوانات، كان على الجمهورية البيضاء أن تغسل دماغ شعبها للاعتقاد بأنهم، في الواقع، حيوانات ويستحقون أن يعاملوا مثل الحيوانات ... [العنصرية] كانت سياسة متعمدة لكسب المال من اللحم الأسود. والآن، في عام 1963، لأننا لم نواجه هذه الحقيقة أبدًا، نحن في ورطة لا تطاق."
التضامن الأممي
فهم بالدوين دائمًا الدور الحاسم للتضامن في تحدي النظام وكيف أن اضطهاد مجموعة واحدة مرتبط باضطهاد الجميع. وعندما أظهرت حرب فيتنام أن حكومة الولايات المتحدة مستمرة بالقمع والاستغلال في جميع أنحاء العالم، توسّع مفهوم بالدوين للتضامن أكثر ليصبح أمميًا. لم يكن التضامن بين السود والبيض في الولايات المتحدة كافياً في حد ذاته، لأنه لا يمكن التغلب على العنصرية في الداخل بالتزامن مع ارتكابها في الخارج. وهكذا، كتب بالدوين في كتابه No Name in the Street: "أي التزام حقيقي بالحرية السوداء في هذا البلد سيكون له تأثير في إعادة ترتيب جميع أولوياتنا، وتغيير جميع التزاماتنا، بحيث، على سبيل المثال، يجب أن ندعم الثوار السود في جنوب إفريقيا وأنغولا، يجب أن نكون أقرب إلى كوبا مما نحن عليه من إسبانيا، وسوف ندعم الدول العربية بدلاً من إسرائيل، ولن أشعر أبدًا بضرورة اتباع الفرنسيين في جنوب شرق آسيا."
بحلول عام 1987، استسلم بالدوين لمرض السرطان، تاركًا خلفه الكثير من الروايات التي يمكن للراديكاليين اليوم أن يتعلموا الكثير منها، عن البؤس اليومي الذي يثقل كاهل جميع معذبي الأرض، عن الكادحين الفقراء وعن المهمشين البؤساء. كتاباته الواقعية تجمع أدلة كثيرة عن الأفكار الأساسية للاشتراكية: أن العنصرية هي شريان الحياة للرأسمالية، وأن الاشتراكية هي البديل. أن علينا دراسة النظام لمحاربتها وأن النضال يجب أن يربط كل المجموعات المضطهدة في تضامن من أجل قضية مشتركة للتحرر الكامل.
اشتهرت الثورية الألمانية روزا لوكسمبورغ بعبارة أن الإنسانية تواجه خيار الاشتراكية أو الهمجية. بطريقته الخاصة، قال جيمس بالدوين ما يشبه عبارة لوكسمبورغ: "بصفتنا اشتراكيين، من واجبنا التنظيم حتى تتمكن البشرية من تجنب الحريق في المرة القادمة. لدينا بديل لهذا العالم الذي تشعله نار يغذيها دافع الربح، حريق يلتهم إنسانيتنا – من خلال الاتحاد والنضال من أجل مجتمع اشتراكي يحقق الرفاهية للبشرية."
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة