كلّ ما أذكره هو سَيْري سريعًا على طريق القرية صعودًا. لم أكن ألهث. خطواتي ثابتة وواثقة. لم أكن أتعرّق. ولم تكن الشمس انفصلت تمامًا عن القمة. بقيَت حبال سُرَرها تتوهّج وهي تتقطّع للمرة الأخيرة، ككلّ يوم.
فجأة، حُجب قرص الشمس. تطلّعتُ فلم أرَ غيمة. كان الوجه المدوّر للممثل السمين هاردي يبتسم لي كمن يحاول مواساتي، واقفًا أمامي ببدانته المعهودة. ولكنه بدا عملاقًا. طبيعية هي هذه الضخامة وإلا فكيف حجب قرص الشمس؟
حجبَ قرص الشمس وقطع عليّ 90 في المئة من طريقي. تفاجأتُ بظهوره المحبّب ولوّحت له تحيةً. ثم هممت باجتيازه وأنا أتطلّع فيه من تحت، فاصطدمتُ بعملاق آخر نحيف هذه المرّة، لكن حجمه كان كافيًا لسدّ المنفذ المتبقّي لي. إنه لوريل رفيق هاردي الدائم.
في تلك اللحظة، كثرت الغرائب، إذ عاد كلاهما إلى حجمه الطبيعي، ووجدت نفسي عدتُ إلى سنّي الثامنة مرتميًا على ركبتيهما (اليمنى للوريل واليسرى لهاردي) أحاول عبثًا المرور من بينهما.
لم يَدَعاني أمُرّ. ولم تنفعني توسّلاتي. فبقي رأسي عالقًا بين ركبتيهما، أنظر إلى امتداد الطريق من حيث قطعتها الشخصيّتان الفكاهيّتان.
وكان هذا آخر شيء أراه قبل أن أستيقظ من الحلم وأعود إلى واقعي شابًا في العشرين.
في تفسير الأحلام، قطع الطريق دليل فَشَل. وهذا ما حصل فشل شخص عزيز في البقاء على قيد الحياة. وفي المرة الثانية بعد أشهر، عاودني الحلم نفسه بحذافيره إياها وفشلتُ في سنةٍ دراسية.
تحقّق التفسير مرّتين بحذافيره أيضًا، ولو أني لم أكن أنتظر أي تفسير. فالفشل له أسبابه المزمنة الذاتية والموضوعية. عجبي الكبير كان مِن تحوّلِ حلم لوريل وهاردي، الممثليْن المضحكيْن، إلى كليشيه للفشل!
بقيت أخاف من أن يتكرّر هذا المنام حتى انطوى. ولم أستعدْه بعد ذلك في نومي، إنما كحكاية لولدَيّ منذ زمن بعيد، والآن مساهمة منّي في موضوع هذا العدد من "رحلة"، لعلّني أكتشف فيه أموراً أخرى غير الدلالات والتفاسير.
فما زلتُ أفكّر في ما كان يعتريني بعد "مشاهدة" حلم بطلاه أحب شخصيّتيْن إلى قلبي في طفولتي. ولعل حضورهما فيه أتى ليخفّف من ثقله ككابوس.
في اليقظتيْن اللتيْن تَلَتا الحلم وتكراره، كان ذهني يعلق عند مشهد امتداد الطريق من الجهة الأخرى للحاجز العجيب. وكنت أتساءل عن سبب اختفاء القادمين من تلك الجهة. فكلّ شيء كان يبقى على حاله الشمس الريح الطبيعة عالم الحيوان، ولكن ليس البشر.
فهل لأني أحلم كان البشر يتحاشون الدخول في منامي، علمًا أنهم من أهل قريتي الفضوليين جدًا؟ أم هل لأن الجميع يعرف أن الطريق مقطوعة، لا يقترب أحد من نقطة القطع؟
التساؤل الثاني جعلني أستعيد المشهد من خلفي أي من حيث قدمتُ إلى نقطة القطع. لم أرَ بشرًا أيضًا. فإذًا، سبب غياب البشر الآخرين هو الحلم الذي يقتطع الأجزاء الضرورية من الواقع ويعرضها كمشهد من فيلم يشاهده الحالِم وفي الوقت نفسه يؤدي دورًا فيه.
وها أنا الآن أشعرُ باضطراب يدفعني لأتساءل عمّا الذي يحصل عند نقطة القطع نفسها؟ في الأحلام، قد ترتدي تلك النقطة حِلَلًا غريبة عجيبة أو تقلّد الواقع أكانت مؤنسة أم مرعبة، ولكنها لا تتسبّب بالأذى الفعلي لأنها مشهدية يركّبها الذهن ولا تدوم أكثر من ٣٠ ثانية، على حد تفسير العِلم.
إلا أني لا أجرؤ على التفكير في ما يمكن أن يحصل عند تلك النقطة وأنا في اليقظة، أي عند "الحاجز"، والبشر عالقون هناك ضمن مشهد يشبه "يوم الحَشْر" الموصوف في الكتب، يتعرّضون للقتل أو التعذيب أو الاختطاف أو المذلّة أو كل ما سبق... فكم من مفقود شكّل الحاجز نهايتهم وعَدَمَ كل إمكانيات اقتفاء أثرهم؟ وكأن نقطة القطع نافذة تشفط الأجساد مع أرواحها إلى المجهول.
كانت أيام حرب قذرة في لبنان وأنا ممتن لمخيّلتي التي استحضرت، في مرحلة الويلات والمحن تلك، لوريل وهاردي ليشكّلا نقطة قطع في منامي.
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة