وُلد شعوري بأني غريب عن البيئات التي حللتُ فيها خلال حياتي، مذ تعرّضت لحادثة غرق وأنا رضيع. أعود إليها كلما أردت مراجعة حياتي. وكلما تذكّرتُها رأيتُ نفسي شخصًا غريبًا عن كل ما يحيطني، منزلقًا نحو الاغتراب عن الحياة، بينما أفتّش غريزيًا عن حل أرفس به الموت، لحدسي أن بين الموتى لا ينبت غرباء، فالغريب يكون دائمًا بين الأحياء.
وقتها، دفعتني غريزتي لأتخبط كي لا أفنى. وما لبثتْ أن جاءت اليد التي انتشلتني. وعلى مرّ السنين، صرتُ أحوصُ ونفْسي تضيق كلما شعرتُ بالاستقرار والثُبوت مرادفَي الموت. أتأهّب للرحيل. أناكف نفسي كما يفعل الأزواج حول الوجهة. وكنت دائمًا أغلبها. وعندما أنتقل إلى مكان أو وضع آخر، أصبِحُ فيه تلقائيًا غريبًا تنتابني الدهشة وعيناي تقدحان علامات استفهام ويغمرني السرور.
حياتي بدأت يسيرة. مصيري كان في تجارة أرثها عن أهلي. ولإضفاء نكهة جديدة على حياتي المرسومة، انتسبتُ إلى حركة الشبيبة الأرثوذكسية، من دون أن أسأل نفسي عن الدافع. سلكتُ درب الكهنوت التي لا تتعارض مع دروب التجارة. ورحتُ أتلو الابتهالات بعيون مغمضة وورع غير مُقنِع تمامًا. ثم سمعتُ شرح الأخوة في الإيمان لدلالات الأزياء والأكسسوارات المُذهّبة لرجال الدين، ومنها الأبّهة لتمثيل الملكوت! طارت دهشتي وحُصتُ. وبعد وقت وجيز من التسطيل على رائحة البخور والانجذاب نحو الأعلى، انتسبتُ إلى الحزب الشيوعي اللبناني ومادّيته الجدلية أو الديالكتيك.
في هذه المرحلة، قاطعتُ أيضًا التجارة لعلاقتها بـ "الكومبرادورية" البغيضة واعتبرتُ أهلي من هذه الفئة.
كانت الدنيا حرب، وبقيت في الحزب غريبًا ومدهوشًا. لامستُ عالم السياسة وتقرّبتُ من الثقافة ونما في ذهني الفضول والاطّلاع. فمن القراءات الجديدة عليّ ودروس الديالكتيك والسلاح واستيعاب المغزى من حمله والوقوع في غرام الآداب والفنون، إلى مناصرة القضايا الإنسانية وخوض المسائل العالمية الشائكة التي وهبتني أخوةً في النضال، من فلسطين إلى فييتنام ومن السودان إلى الأرجنتين، وعلى رأسنا الاتحاد السوفياتي… لم أفقد دهشتي ولم يكن لدي وقت للاستقرار والثبوت على أي شيء.
هذا وجعلني الديالكتيك أغرق في الحدس، أطرح أسئلتي وأفتش عن أجوبة عليها كانت بدورها تثير فيّ أسئلةً جديدة… فلكل سؤال جواب وسؤال. أليس هذا هو الديالكتيك، فكرٌ ثائرٌ وعقلٌ فوّارٌ في جدل دائبٍ بين التجربة والخطأ، بين التنظير والواقع؟ وإذ أسكرتني الأممية ونشيدها، قلتُ لنفسي أخيرًا بلغتُ جنّتي في الغرابة والدهشة… إلى أن شرح لنا الكوادر سياسة التحالفات التي انتهجها الحزب الشيوعي إبّان الحرب الأهلية حيال بقية الأحزاب والفصائل وما تنطوي عليه من مسايرة لأولياء النِعم وأصحاب الفضائل. حُصت أكيد. وقبل أن أرحل، كتبتُ انسحابي بمنطق ديالكتيكي وقرأته عليهم ثم انسحبت.
هل أنا غريب أم لامنتمي؟ هناك فرق بين الحالتين. ويمكن أن تصاب بإحداهما دون الثانية أو بكلتيهما.
أعترفُ بأنني تهتُ بعد الحزب الشيوعي إذ انحدرتُ من اعتباري محرّكًا للجماهير، وفق "المانيفستو"، إلى شخص يحتاج إلى تحريك. وأمسيتُ غريبًا حتى عن نفسي ولم أطق الثبوت على هذا النوع من الغرابة اللامعقولة.
وما زادها وضخّمها أني لم أغادر بيروت أثناء الاجتياح الإسرائيلي في 1982. حصار وجوع وموت ودمار وأشلاء تتنقّل أمامي، وتتوعّدني بأن تنغرز في جسدي في الكَرّة المقبلة. أبنية ضخمة تتكئ على حيطان جاراتها بينما تخرّ صريعة على الأرض. روائح الجثث. أكوام النفايات الشاهقة. صوت خطواتي أثناء السكون المتوتّر، كان يكسحه الهدير العظيم لكل أدوات القتل معًا، وصرخات العويل من بعده يليها ترقرق شلالات الزجاج… فالسكون.
أصبحنا كلنا غرباء. ولأن بين الموتى لا ينبت غرباء، حصتُ من جديد وقرّرتُ أن أرفس الموت الذي كاد يحصدني. إلّا أن الانتقال هذه المرة كان صعبًا. إلى أين؟ إلى المسرح. لمّني أستاذي الإيمائي فايق حميصي من ضياعي حين قال لي: "تسجّل في معهد الفنون الجميلة،" ففعلتُ بلا تردد.
عالم المسرح عالم جديد. عالم عجيب. عالم مدهش. وأنا فيه غريب من جديد. رحتُ أتحدث مع شخصيات مكتوبة على ورق قبل أن أصِيرَها. وكان يكفيني أن أقرأها في كُتُبِها، وأنا مشدوه أراقبها وهي تتجسّد عبر جسمي وصوتي والاكسسوارات والفضاء المشغول.
الإيماء، فن الخلق في الفراغ، أسرني: صرتُ أصنع حركات صامتة أرسم بها للفُرجة عوالم في فضاء المنصة. وكان يكفيني أن أحدد أبعاد الشيء وإحداثياته وأتفاعل معه، حتى يتجلّى في خيال المتفرّج ويشحذ ذهنه. وأنا أتفرّج على المتفرّجين من خلف تلك العوالم ومن خلف تلك الشخصيات. لم أكن وحدي في ذلك. كنا فرقة من "الهامشيين"، كما وُصِفْنا في مقال صحافي. فهل كنّا هامشيين وغرباء أيضًا؟
لم يرتوِ شغفي بالمسرح ولم أحسن مكافأته لكونه السبب في معرفة عايدة صبرا حبيبتي وولدينا يعقوب وآدم. وأصبح التحدي أمامي في بقائي غريبًا مع عائلتي. ضرورة الارتزاق دفعتني إلى البحث عن عمل والتخلّي عن الشعور بالغرابة وإلى الاقتناع بالاستقرار والثبوت لتأمين الدخل. وجدتُ عملاً في جريدة "الحياة".
في هذه المرحلة، اعترتني دهشة الاطّلاع ودهشة الكتابة. ثم ناديتُ فنون المسرح لنجدتي أنا الذي لا أحمل شهادةً في الصحافة، فلبّت ندائي. ومن خلالها صرتُ غريبًا بين زملاء لا أنتهج نهجهم في العمل. فصارت غرابتي بينهم سرّية: ظاهري صحافي أليف وباطني مسرحي غريب.
تصارعتُ مع نفسي كثيرًا حيال عائلتي، أنا الدخيل على وظيفة والخائن لمهنة، أنا الصحافي الذي عليه المساهمة في تأمين المعيشة، والمسرحي الذي عليه أن يفرش لأحبابه عوالم البهجة والهناء ليرفسوا بها عوالم التعاسة والغم.
تفاقم الصراع بين الدخيل والخائن. ثلاثتهم فضّلوا الخائن ومنحوه فرصًا للتوبة. تبتُ بفضل عايدة التي أرجعتني إلى حظيرتي الأولى ومعها عدتُ أخوض الفن، من دون أن أتخلى عن الكتابة.
شعرتُ أني غريبان في واحد. كل ما أفعله يدهشني لأني وجدت معادلة سهلة للابتكار كنتُ قرأتها في كتاب "الأمير الصغير" لأنطوان دو سانت أكزوبيري، حين قال لعامل إنارة الشارع في ذلك الكوكب الصغير "عملك جميل لأنه مفيد"، مع أن عمله يشبه قصاص سيزيف، ما إن يشعل الضوء في العتمة حتى تشرق الشمس فيطفئه. وهكذا تمضي أيامه.
وعلى إيقاع عامل الإنارة، تسنى لي معايشة ولديّ وهما يكبران جسدًا وفكرًا على نحو جميل. وبات للعمل في الصحافة طعم لذيذ. ثم ما لبثت أن أقفلت "الحياة" أبوابها وسرّحتني من لعب دور الدخيل.
شاءت الصدف، فيما أفتش عن غرابة أخيرة أتدثّرها، أن دُعيت للمساهمة في الكتابة في هذه المجلة، "رحلة"، التي تصدر عن "اتحاد المنشقّين عن قوى الأمر الواقع" (لكن ليس عن الواقع، فالانشقاق عن هذا الأخير يعني الموت، وبين الموتى لا ينبت غرباء).
تخيّلوا مدى فرحتي وارتياحي لمجرّد تأثير اسم هذا الفريق النضر الحي في نفسي. وأدعوكم وأدعوكن إلى فلفشة إصدارات المجلة لكي تعرفوا عمّا أتكلّم… فهل كانوا يراقبون غربائي الذين كنتهم وقدّموا لي هذه الفرصة؟
أخيرًا، فهمتُ أني غريب أنتمي إلى نفسي ومنشق عن قوى الأمر الواقع!
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة