حدّق/ي ملياً في هذا الرسم. لا... لم يُقصد به التعبير عن حالة "التباعد الاجتماعي" التي يعيشها سكان الكوكب بسبب وباء كوفيد 19، مع أنه (الرسم) يصيب ما نتخيّله عن أنفسنا في هذه الأيام: كل يعيش في فقّاعته داخل المنزل وخارجه. مفروض عليه أن يبتعد عن الآخرين مسافة محددة بحوالى 1,5 أمتار. وهي تمثل المدى المقدّر الذي يقطعه الرذاذ المنطلق من عطسة بشرية.
معروف أن ثمة عطسات أشد كثيراً من أخرى. لكن، خيراً فعلت السلطات الصحية في تحديدها المسافة، وإلّا لكان على كل منّا أن يحمل متراً يقيس به البُعد الذي يواجه منه الآخرين، وفقاً لقوة عطساتهم.
فلنتخيّل، إذاً، عالماً كله أمتار، كأمتار النجّارين، تطول شرائطها الصفراء العريضة المرقّمة وتقصر وفقاً لعدائية العطس. وتتبدّل اتجاهاتها وفقاً للجهات التي يُحتمل أن يأتي منها الرذاذ.
فيبدو واحدنا كمقاتل ساموراي ينفّذ بسيفه القاطع "كاتا" ينازل فيها أعداءَ وهميّين... والصورة التي ترتسم في مخيّلتنا تحيلنا على العروض المسرحية لحركة "باوْهاوْش" الطليعية في الثقافة والفنون والعمارة (1919 – 1933)، حيث لامتدادات جسد الممثل المصنّعة والأكسسوارات قيمة درامية رفيعة.
لعلّ الفقاعة المدوّرة تختزل ببساطة كل تلك الحركات والاتجاهات وتعقيداتها. لكن تبقى الميزة الملفتة في هذا الرسم والقاسم المشترك بينه وبين أحوالنا الراهنة، صرخة الاستغاثة المكتومة على وجوه الشخوص وأيديها المرفوعة سخطاً.
أما الرسم فهو غلاف نفّذه الرسام والمعماري الفرنسي جان – ميشال فولون (1934 – 2005) للنسخة الفرنسية (1991) من كتاب "البُعد الخفي" (1966) للباحث والأنتربولوجي الأميركي أدوارد تي. هالْ (1914 – 2009).
ويبحث الكتاب في نظرية المجاوَرَة، proxemics: كيفية استخدام الفضاء في التفاعل والتواصل بين البشر. والمجاورة تنطوي على ابتعاد كما على اقتراب بمسافة تختلف مع اختلاف ثقافات الأمم والشرائح الاجتماعية: المجاوَرة في بيئة عمل غيرها في حديقة أو سرير. ويشير هالْ في كتابه إلى أن العرب يتقاربون إلى حد شمّ رائحة الآخرين، الرائحة كحد خفي. أما الغربي عموماً فيترك في العادة فسحةً بينه وبين والمخاطَب، إذا قصُرت قسراً يحصل تعدٍ، وإذا طوعاً ينشأ وضع حميمي.
إلاّ السلطة... يبدو أن سلوكها متشابه في كل مكان. فهي تتواصل مع مواطنيها دائماً من بُعد. وإذا حصل أن تقرّبت منهم فليس لخطب ودّهم، إنما لتنفيذ مآرب خفية، شريرة إجمالاً.
في الكتاب أيضاً، فصل حول "التباعد الاجتماعي"، كمسافة أمان (وخطر أيضاً) لدى الإنسان والحيوان على حد سواء. فالاقتراب يُشعر أفراد الجماعة والقطيع بالأمان والابتعاد بالخطر. بيد أن الأمر، بالنسبة إلى البشر، انعكس تماماً بوجود كوفيد 19، فصار في الاقتراب خطر على الحياة.
وهذه مفارقة كبرى، يضيف عليها فولون في رسمه عنصراً مدمّراً، من دون أن يتعمّد قرنه بالجوائح والكوارث والحروب... فهو بيّت شخوصه في فقاعات رقيقة شفافة ولكنها خانقة، كما تدل على ذلك تعابير الوجوه والوضعية الجسمانية المستنفِرة للشخوص، وأيديها التي تجعلها تبدو تارةً مستسلِمة وطوراً تخبط بقوة على الجدار الرقيق عاجزة عن اختراقه للفرار.
والأشد رهبةً هو وضع الفقاعات متّكئة بخفّة فوق كثبان، رميلة على ما يبدو، قاحلة تماماً لا حياة فيها. وتتفاقم المفارقة مع التساؤل لو نجح الشخوص في الفرار فإلى أين؟ كما أن الكثبان المدبّبة تنذر بأن الفقاعات، الثابتة بالكاد، على وشك الإنزلاق والتدحرج والتضارب بعضها ببعض ككرات البيلياردو. فلو كانت الفقاعات زجاجية لتكسّرت وخرجت منها الشخوص إلى هلاكها. ولو كانت بلاستيكية لتطايرت نحو المجهول أيضاً واختنقت فيها الشخوص.
ثمة تباعد اجتماعي من نوع آخر، سبق حَجْر كورونا بكثير ولم يشِر إليه هالْ في كتابه وكرّسته التلفونات والألواح الذكية. ويشكّل بدوره مفارقة أخرى أكثر غرابة. فهو تباعد لا يقيم حساباً لمكان وجود مستخدِم الجهاز. فأينما حلّ هذا الشخص، يستل تلفونه ويغور في الشاشة، مستحضِرًا عبرها غُيّابًا في أمكنة بعيدة أو ليلعب "كاندي كراش" أو "ببْدجي"... منفصلاً تماماً عن جواره أو جاره اللصيق وضوضاء المكان، حتى لو كان يقام فيه عرسٌ مع طبل وزَمْر.
في هذه الحالة، ما هو البُعد الخفي؟ وهل تبقى لفقاعات فولون أي قيمة لتظهيره؟
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة