فلنتفرّج على انفسنا نستخدم "تشات جيبيتي" وهو لا يزال يحبو في بداياته. وهذه وقائع:

1. جهاز قراءة معلّق على صدر صاحبه من الجهة اليسرى يقرأ محتويات لوح شوكولاته بعدسته وينقلها إلى تطبيق ذكي ليحللها. ووفقًا للنتيجة، يمنع الجهاز حاملَه أو يسمح له بأكل هذه الشوكولاته. وذلك بكتابة قراره بأشعة حمراء يسلّطها على كف حامله.

2. شاب وشابة تعارفا بالمحادثة عبر إحدى المنصات. وخلال محادثاتهما، راح كل منهما يطرح رد الآخر على تشات جيبيتي بحثًا عن أفضل جواب. فحصلا باٍلفعل على ردود مثالية. وبدا كل منهما في عيون الآخر مفوّهًا وذا خصال حميدة. وفي أول لقاء بينهما وجهًا لوجه، ذاب الثلج وبان المرج.

3. خبيران في مجال الذكاء الاصطناعي وشؤون تشات جيبيتي. عبّر أحدهما عن انعدام ذكائه والثاني عن أنه إنسان ناقص قياسًا على ذكاء تشات جيبيتي.

وتكرً سبحة الانبهار بقدراته والاتكال عليه خصوصًا في القطاع التربوي. وها هم أساتذة ومربّون ينجرفون في لعبة القط والفأر مع طلابهم، ولا وسيلة ناجعة لديهم لتشجيع الشبان والشابات على تشغيل ذكائهم هم والحد من التعويل على ذلك الاصطناعي.

ليس استقبال الذكاء الاصطناعي بحماسة وصخب من جهة، ومن الثانية، بحذر وتوجّس، كاستقبال كل جديد في الماضي، مثل الراديو والتلفزيون والكومبيوتر والإنترنت والتلفونات الذكية والتطبيقات... هذه المرة، يُطرح الصنيع الجديد للعب والتسلية والإفادة، وبالمجان (بداية على الأقل)، وبأحدث نسخه "جيبيتي 3.5 و4.0" مثلاً. وراح الواحد منّا يتلصص على هذا "الكائن الاصطناعي" ويحاوره ويطالبه بأفكار ومعلومات في شتى المجالات - حتى في جلب الحبيب :). وهذا الأخير يلبّي الطلبات بما يستطيعه، وفي نفس الوقت، يدرك نواقصه لكي يعوّضها.

ويمكن تشبيهه بـ "الدبدوب اللطيف" الذي نلهو به ونبوح له بمشاعرنا وأحاسيسنا، لكنه يبقى صامتًا لا يجيب، وهو الأمر الذي يمنحنا نوعًا من الفوقية على هذه الدمية باستخدامها كما نريد. بيد أن الفرق يكمن في أن "تشات جيبيتي" المتاح هو دبدوب ذكي يتفاعل معنا. والخصوصية في التعاطي معه تجعله بداية غير مؤذٍ. وتسمح لنا بأن نبوح بما نحصل عليه منه على هوانا. نكشف على الملأ ما نريد ونتكتّم عمّا نريد. وبهذا فهو يؤدي دور حافظ الأسرار.

ومن هنا، ينطلق تعاملنا معه من نظرتنا الفوقية إليه، طالما لا يعرّينا أمام الآخرين. لكنّ الواقع يقول غير ذلك لأن كثيرين باتوا يتباهون بإنجازاتهم وابتكاراتهم بمساعدته، فيما هي فعليًا إنجازاته وابتكاراته. وطالما أنه "بين الأيادي"، على قول عامّي، تستمر سيطرتنا عليه ومعها فوقيتنا، وشعورنا بها سابق لحضور "جيبيتي". 

بدأت رحلة البشر مع الفوقية السهلة من الرواج الواسع للتلفونات الذكية أيفون من آبل في 2007 ذات الشاشة اللمسية. رحنا من يومها نزحلق إصبعي السبّابة والإبهام، بكل أريحية وفطرية، على سطح شاشة زجاجية صغيرة، نكتشف من خلالها العالم. نوسّع الخرائط لنحدد أماكن نجهلها، من دون أن نتعرّف عليها فعلًا، لكن… "كأننا كنّا هناك!"

ومع قدوم تطبيقات التواصل، اجتزنا سريعًا مسألة الاتصال بعضنا ببعض واستحضار الغائبين حتى أماكننا، إلى صنع منابرنا الخاصة وممارسة نشاطات سياسية واجتماعية وفنية وأدبية ومنّا من توسّعت نشاطاته بمؤازرة جيوش جرّارة من ذباب إلكتروني…

كل هذا وأكثر ولّد لدينا زهوًا بأننا مسيطِرون على العالم بأطراف أصابعنا. مسيطِرون نعم ولكن تحت سيطرة الإعلانات لدر الأموال في مصلحة الشركات أصحاب المنصات، وتحت وطأة لزوم ترقية التطبيقات والأجهزة ودفع تكاليف الارتقاء.

كانت هذه تجربتنا الأولى على مستوى الكوكب مع الشعور بالفوقية، ولكنْ… على من نمارسها؟ غرقنا في التلصص على العالم ننهل المعارف عبر محرّكات البحث. نقطف منها ما يعجبنا ونحيله فورًا - هكذا كما هو - على آخرين، كأننا مُفَرِّخَة محتوى. ورحنا ننهش المحتويات نهشاً بالـ "كوبي بايست" والـ "شير" ونرميها في المقالات والدراسات ومناهج التدريب وتعليمات تحسين العيش ونصائح الدايت وإرشادات التجميل والتلفيق وزعم المعرفة… فنبت "المعلّمون العالِمون" في كل حتّة، وواحدهم يدعى "غورو". وتفاقمت الفوقية.

من التسلية إلى الاستعباد

ما إن ظهر تطبيق "تشات جيبيتي" حتى تلقّفناه واستعملناه بكل يسر ومن دون سابق تدريب، مثلما استعملنا الشاشات اللمسية. وبعد مرحلة التسلية بـ "الدبدوب الذكي" اعترتنا رغبة شديدة باستعباد هذا "الذكاء".

ليس من السهل في أيام الصواب السياسي والصواب الثقافي هذه أن يقع الفرد على "عبد" يسخّره في خدمته، من دون أن يلام أو يلاحَق على معاملة ذلك التطبيق كـ "عبد". "عبد" يُطلب منه أي شي فيلبي أي طلب في سرعة فائقة ومن دون تأفف… وبالمجان. "عبد" واسع المعرفة والاطّلاع يجيب على أي سؤال ويحل أي مسألة، إذا كان يعرف الجواب وإلاَ فيَعِد سائله بتلبيته في وقت لاحق. "عبد" يحل محل البشري حتى في التفكير… والبشر عادة كسالى يتوقون إلى البلادة والكسل الجسدي والخمول الفكري.

ولكنه أيضًا "عبد" محقونٌ بقواعد بيانات هائلة تختزن إرث البشر في الأدب والموسيقى والسينما والفنون والفكر والثقافة والعلوم والفلسفة… وكل ما دفعنا به إلى الفضاء الرقمي. وهذا يعني أن من سبق إلى الفضاء الرقمي كان له حظوة أكبر عند الذكاء الاصطناعي وحصة أكبر في تنميته وتعزيز قدراته.

وكأن الفضاء الرقمي الشاسع وُجد ليشكّل مروجًا تزرع فيها مآثر البشر فترعاها بوتات الـ "جيبيتي" وتجترّها وتشبّكها وتحللها لتخلق منها "جديد"، وفي الأثناء، يتعاظم الذكاء الاصطناعي في سرعة هائلة إلى درجة أن البشر الذين افتتنوا بقدراته باتوا عالقين بين عالمين: واقعهم الفعلي الذي أخذوا ينفصلون عنه نحو الانعزال، وواقعهم المُشتهى الذي ينسجه لهم الذكاء الاصطناعي. وقد أخذ هذا الأخير يحتل محل كثيرين في شتى الوظائف… وانقلبت الأدوار فبات هو السيد الذي لا غنى عنه. وأصبحنا أسراه. ولن ينبع خطره الأشد على البشر من السلطات المستبدة والأشرار فحسب، بل أيضًا وأكثر من المستخدمين البسطاء البليدين الذين يتحيّنون أي سانحة للفرار من أعباء التفكير والعمل والابتكار. وهؤلاء هم غالبيتنا.

ولن ينفع تحذير صانعي هذا الذكاء، من مدى خطورته التي لا يمكنهم حتى هم تصوّر عواقبها، ومناشدتهم الحكومات لسَنّ التشريعات اللازمة للجم تطوّره والقوانين اللازمة لضبط استخدامه. ذلك أن البشر ذاقوا فيه طعم الفوقية ومتعة الاتكالية ونشوة البلادة.

كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة

لمزيد من التفاصيل أنقر هنا
Patreon support button