"التواري الطوعي عن الوجود" ميزة جوهرية في شخصية مصطفى سعيد، وهو زير نساء وخبير اقتصادي وفلاح، وتشاركه في هذه الميزة شايلوه داينستي، Shiloh Dynasty، المجهولة تمامًا على عكس مؤلفاتها الواسعة الانتشار عبر منصات الموسيقى. حتى هويتها الجنسية بقيت أيضًا مجهولة: ذات مرة، تحدّث أحدهم عنها مستخدمًا ضمير الغائب "هي" (she).
عدا ذلك لا شيء. لا شيء غير لقطات مصوّرة لشطر من وجهها وهي تعزف غيتارًا وتغنّي؛ فضلًا عن شذرات من صوتها العذب موجودة في ما مجموعه 28 قطعة موزّعة على "فاين" (Vine) وإنستغرام، بين 2014 و2016 سنة تواريها النهائي. وفي غيابها وغموض حيثياته، استغل إرثها المشاع منتجون من كل الأهواء، وراحوا يصنعون به آلاف التسجيلات، ويحصدون منها (ولا يزالون) المُشاهدات والاعجابات والأموال بالملايين.
أما مصطفى سعيد فمكانه معروف. إنه يقيم في كتاب "موسم الهجرة إلى الشمال"، ويستطيع كل من يعرف اللغات العربية والإنكليزية والروسية أن يزوره. هو إذًا شخصية خيالية، من بنات أفكار الطيّب صالح، الروائي السوداني الرفيع المستوى، الذي أراد عبر مصطفى صنع "إنسان مُعاصر" انطلاقًا من مسوّدة مكوّنة من إنسان بعيد عن العاطفة، حاد الذكاء، صحراوي الفطنة وصيّاد (فُرص). نَفَحته البيئة القاسية حُسنًا في الخَلق كرأسمال يستثمره في "تطوير" شهوانيته التي شعر بها للمرة الأولى عندما شمّ رائحة معلّمته الاستعمارية العطوفة في الخرطوم. حلّق في دراسته في لندن وأحبه أساتذته وتخرّج وبرع في مجال الاقتصاد وله فيه مؤلفات كثيرة. وسافر كثيرًا.
والإنسان المُعاصر الذي أصبح عليه مصطفى سعيد، لطالما جسّد طموحًا لشباب عرب حلموا بممارسة الجنس مع أوروبيات وبإشهار قدرتهم على الإغواء بفضل الشوارب الغليظة أو سمرة البشرة أو شَعر الصدر أو اللكنة أو صيت فحولة العربي... وكان من بينهم من يعتبر أن تحقيق هذا الحلم غزوٌ للغرب وانتقامٌ من استعماره بلاده. وأما الذين توجّهوا إلى بلدان أوروبا الشرقية فرأوا في معاهدات "السلام والصداقة" (Мир и дружба) التي كان الاتحاد السوفياتي المعاصِر يقيم بموجبها العلاقات مع البلدان والشعوب، رأوا فيها ما يجيز لهم تحقيق هذا الحلم.
معاصِرون يغزون معاصِرين، منهم لنهب الثروات ومنهم لصيد البنات، ومنهم لتبادل العلوم والثقافات ومنهم لتصدير الماكينات واستيراد التفجيرات.
أما بالنسبة إلى مصطفى سعيد فقد أعتبر وجوده في المملكة المتحدة غزوًا مضادًا انتقامًا للقائد محمود ود أحمد، أحد أمراء الدولة المهدية في السودان، الذي أسره البريطانيون بعد هزيمته بمعركة عطبرة في 1898. وعوّل على حسنه وبشرته القرمزية وروائح عيدان الصندل والقصائد العربية، ليتسلل إلى قلوب الحسناوات ويتفشّى كفيروس في أجسادهن وعقولهن ويصل "إلى القمّة"، كما وصف لحظات "انتصاراته" للراوي الذي نقل لنا حكاياته. كأن مصطفى كان كوفيد عصره.
وانتهت غزوته لأوروبا بموت 4 نساء انتحارًا من حلاوة عشقهن له. ففضّل أن يقول إنه قتلهن ويتحمّل وزر قسوته وانعدام عاطفته، لكي يؤمّن غيبته الصغرى.
وذات ليلة بعد سنين طويلة، وبعدما أترع ذلك الفلاح الوديع أبو الأولاد المَكين الهادئ، والمحبوب من أهل تلك القرية النائية على شط النيل... بعدما أترع نفسه بالكحول، راح يتلو قصائد بالإنكليزية بلفظ صحيح ألهب فضول الراوي. وهكذا، عاد مصطفى سعيد الغازي (سابقًا) ليكشفَ كل أسراره ويتلوَ فعل الندامة. ففي هذه المرة، رتّب أموره استعدادًا لغيبته الكبرى وقضى غرقًا ذات طوفان عارم. لكن بقاء جثّته مختفيةً فاقم الشك في توارٍ مدروس قد يكون نفّذه من جديد. إلا أن أثره ضاع فعلًا في مياه النيل الغاضب. وبقيت رواية الطيب صالح، موطن مصطفى الفعلي، تروي حكايته لأجيال الحداثة وما بعد الحداثة.
أما شايلوه داينستي البشرية فأثبتت أنها أجرأ من مصطفى نموذجِ المُعاصِر ومن مقلّديه، وأنبل من معاصريها المابعد حداثيين. فهي أغدقتْ على مستبيحي ابداعاتها بأن تركتهم يمعنون في نهبها، بينما ظلّت تلك الإبداعات، مثلما وضعتها وتركتها، نقيّةً ولاّدة تتناسل بالملايين كأنها فيروسات متحوّلة يصعب كبح جماحها.
لا شيء يربط مصطفى بشايلوه غير التواري؛ لكن هو يختفي بشحطة قلم وأما هي فبقرارها. هو شكّل نموذجًا للمُعاصِر بقلم روائي وَلًدَه من كلمات. أما هي فمن لحمها ودمها شكّلت "ضدَ - نموذج" (أنتي - نموذج) للمُعاصِر والحداثي والمابعد حداثي؛ ضدَ - نموذجٍ قهرت به مغريات عصر التفاهة أو نِعَمِه، ليس من قبيل التعفف إنما رفضًا لإشهار شخصها أولًا، وثانيًا، هزءًا بـ "المال والشهرة"، فخ النيوليبرالية. نموذج مصطفى قلّده الآلاف. وأما "ضد - نموذجـ"ـها فعصى علينا، وبخاصة عندما توجّهت إلينا، نحن المطالِبين بعودتها، من العامة والنجوم والمشاهير، بتغريدة "أنا لستُ تقليعةً، أنا إحساسٌ" (I am not a look, I am a feeling).
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة