أقرّ بأن الكتابة في موضوع "عامة الناس" مهمة عسيرة. فلا الفقير أو المقتدر ولا الفيلسوف أو المفكر ولا عالِم الاجتماع أو الإناسة يستطيعون خدش قشرة حقيقة العامّة وإذا نجحوا تبتلعهم متاهة واقعهم.
إلاّ أني أشعر بدفء الانتماء إليهم، إلى الجماهير، إلى القطعان الطليقة المتدافعة من دون تفكير نحو هدف محدّد، تثبت الأيام أنه غالباً ما يكون تحقيقه مخيبًا، ومع ذلك تراهم يستمرون مندفعين حتى يرتطموا بجداره.
والحق، أني لم أبلغ يوماً أي هدف من الأهداف مع القطعان لأني لا أنقاد بسهولة. أتراجع حين أشعر بعقم المحاولة فيلفحني برد الانعزال والندم جرّاء عدم تذوقي الهزائم التي يُمنَون بها… كل مرة.
وتحيّرني المرتبة التي تقع فيها الجماهير على السلّم الاجتماعي. فالجماهير الصلبة رآها ماركس في البروليتاريا (الطبقة العاملة) التي كانت تضم عمال المصانع وفلاحين، ثم توسّعت لتشمل كل الذين يعملون، إن بأيديهم أو بعقولهم، لكسب عيشهم. إلاّ أن آهلي هذه الطبقة لا يقوون دائمًا على تشكيل رأي عام وازِن بسبب تفتت شرائحهم واختلاف همومهم وتبعثر أهدافهم… وأبسط دليل محسوس على التشتت القول العامي "مَلّلا شَعب!" يكون قائله ممتعضًا قرفانًا من أقرانه، من شعبه. وبقوله هذا نراه كمن يتخلى عن انتمائه لكنه يحتفظ بمصلحته فيه، فلا يبدي أي استعداد للتضامن مع قضايا تعنيه، أو حتى للتعاطف مع أمثاله.
وهكذا، رحتُ أشعر أكثر بحضور طاغٍ ومخيف للبروليتاريا الرثّة، كما عرّفها لينين، وقوامها الخارجون عن علاقات الإنتاج الرئيسية الذين لا دخل شهريًا لهم. ومنهم المعدمون والمجرمون… الذين يكسبون عيشهم بطرق ملتوية كالسلب والقتل والدعارة والأشغال الوضيعة… ويعجزون عن تشكيل تنظيم سياسي وخوض الصراع الطبقي، بينما عيونهم تبقى على السلطة يتحيّنون أي فرصة، مهما خَسّت، للاستيلاء عليها. وقد وصفهم إنجلز بأنهم يغيّرون مواقفهم مقابل حفنة قروش.
وهؤلاء، مجدداً بحسب ماركس، وُجدوا من زمان بعيد في تاريخ البشرية، قبل تشكّل البروليتاريا نفسها.
إلاّ أن تلك الطرق الملتوية لكسب العيش وتسلّق السُلّم الاجتماعي، لا تتوقف فقط على البروليتاريا الرثّة، إذ نرى أن الطرق نفسها إياها ينتهجها أيضًا من هم في السلطة وأصحاب النفوذ والنُخب السياسية والثقافية، فضلًا عن شطور من العامّة أنفسهم. وأكثر تلك الطرق حضارية محاولة إقصاء الآخر بالتلفيق أو الابتزاز بدفاتر قديمة، وأشدها بربرية تجويع شعوب وتشتيتها وقتل بلدانها.
كل هذا يجعل البروليتاريا الرثّة، بالمقارنة والقياس، انعكاسًا متطابقًا للسلطة، مثل انعكاس البشر والحجر على صفحة مياه صافية في الصور الفوتوغرافية، حيث يختلط على الرائي الأصل وانعكاسه كيفما قلّب الصورة. وما يمتّن هذا التطابق أن الشطر الأعظم من البروليتاريين الرثّين أصبح داخل علاقات الإنتاج الرئيسية ويقبضون دخلًا شهريًا، بالإضافة إلى مكاسبهم الدنيئة.
لو كان الثلاثي الشيوعي أحياء، هل كانوا ليعيدوا النظر في تعريف البروليتاريا الرثّة؟ الغريب أنهم لم يروا هذا التطابق ممكنًا.
وأما في مناطق الصراع والنزاع، فيجد عامة الناس أنفسهم محاصرين بين طبقتين رثّتين، بين السلطة وأتباعها في الأعلى وبين الطامحين إليها في الأسفل.
ويبقى السؤال من هم فعلًا "عامّة الناس"؟ هم عادة الذين يوصفون بأنهم بُسطاء، عاديون. هم الشعب، الجموع، الغوغاء، الجماهير، الرأي العام، الأغنام، حشوة صناديق الاقتراع أو وقود الحروب.
وأخيرًا، هم الذين خلع عليهم المتنبّي الرَثّ بيته الشهير:
إذا رأيت حشودَ بلاد هاتفةً / فلا تظنّن أن العامّة تنتفض.
الصورة: امبرتو بوتشيوني، رسام ونحات إيطالي ساهم في تطوير تيار المستقبلية (futurismo) الايطالي
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة