جاء العقدان الرابع والخامس من القرن العشرين يحملان أكثر جيلٍ شعري إثارةً للجدل والاهتمام في الولايات المتحدة الأميركية، ذلك الجيل الغاضب الذي تمرّد على واقعه المحيط به كان يعرف باسم "جيل البِيتْ"، Beat Generation. إبتدع هذه التسمية الروائي والشاعر "جاك كيرواك". كلمة "بيت" (beat) كانت وصفاً رائجاً في أوساط مجتمع السود في أميركا وتعني الإنهاك أو التعب المُفرط الناتج عن "ضربات/ صدمات الواقع". إلا أن "كيرواك" أراد لهذه الكلمة أن تعكس طبيعة الحركة الأدبية التي قادها مع زملائه أمثال "ألن غينسبرغ" و"هال شايس"، لتكون وصفاً صوَريّاً بمعنى "الإيقاع"، ليعكس جوهر أدبهم المستمد من الموسيقى (خصوصاً الجاز)، والموضوعات الشعرية المستلهمة من الشوارع والمغامرات الجامحة. شعراء جيل البيت والذين هيمنوا على الساحة الأدبية كحركةٍ مضطربة، سفلية وفريدةٍ خلال الخمسينيات توّاجدوا في منطقة خليج سان فرانسيسكو، وتحديداً في الأحياء القريبة من مكتبة "أضواء المدينة" للشاعر والناشر لورانس فيرلنغيتي.
يمكن القول إن هذا الجيل كان أحد نتائج الحرب العالمية الثانية، فحركة هؤلاء نشأت جراء الخيبة التي أعقبت الحرب وأنتجت الحرب الباردة بين الإتحاد السوفياتي والولايات المتحدة. وهذا العداء الجيوسياسي خلق نوعاً من الاضطهاد الفكري والقمع الثقافي وكذلك جهوزيّة اللغة وأطرها التقليدية المستوردة من أوروبا عقب الحرب. كل هذا دعا شعراء ذلك الجيل إلى التمرد على واقعهم والاصطدام به. وألهمهم في سعيهم موسيقيو الجاز والبلوز، والشعراء السرياليون والميتافيزيقيون، وأيضاً كتّاب الهايكو والتانكا والزن. فتبنّوا عفوية الكتابة وعدم تقييدها عندما أعلن آلن غينسبرغ، عراب هذه الحركة، نظريته القائلة بأن "أفضل الأفكار هي الفكرة الأولى". ثم اتجهت تجربتهم الأدبية ساعية إلى استكشاف المخدرات (المهلوّسات بالأخص)، الحريّة الجنسية، الديانات والعادات الشرقية (البوذية تحديداً)، وتجرّأوا سياسياً واجتماعياً على فضح سياسات الولايات المتحدة العنصرية وتكذيب أخبار حربها في فيتنام،كما رفضوا مبدأ ماديّة الاقتصاد.
كانت أوّل قراءة شعرية مشتركة لهذا الجيل في معرض "سيكس"، Six، بسان فرانسيسكو في 7 أكتوبر 1955، حين قدّمهم الشاعر كينيث ريكسروث. وتعاقب على القراءة، خلال تلك الأمسية، خمسة شعراء: آلن غينسبرغ، فيليب لامانتيا، غاري سنايدر، فيليب ويلن ومايكل ماكلوور. ويُعتبر الأخير مع سنايدر آخر الباقين من هؤلاء على قيد الحياة.
ولد ماكلوور في 20 أكتوبر 1932 بكانساس. ولم يكن يتجاوز الثالثة والعشرين، حين قرأ قصائده في أمسية معرض "سيكس"، وفي شعره جمعٌ سلسٌ بين العفوية التلقائية والتعبيرية التجريدية، بين ممارسة البوذية ولغة الجسد، وذلك لغرض دمج الروحاني بالمادي. وتُعرف عنه تجاربه في إلقاء الشعر مع موسيقى مصاحبة. ومن أبرز مَن عمِل معهم في هذا المجال تيري رايلي وراي منزاريك عازف الكيبورد الشهير في فرقة "دورز" حيث جمعته علاقة صداقة مع رمزهم "جيم موريسون". تُرجم شعر "مايكل ماكلوور" إلى عدة لغات وصدر له عدّة مؤلفاتٍ في الشعر والرواية والمسرح منها: إلى آرتو، بني داكن، اللحية، مفيستوس وقصائد أخرى، بقع، مرآة المطر...
ثلاث قصائد
ترجمة: إيفا شاهين
الغرفة-إلى جاك كيرواك 1
في غرفةٍ مضيئةٍ
في جحيمٍ عتمٍ
في الكهرمان والكروم
أشعرُ أنّ انتفاخ الغيمة حدث بفعل حركةٍ من الساق واللسان
في انعكاسات ضوء الذهب ألوانٌ خفيفةٌ
وإشعاعات من الذهب والكهرمان رمحيّة الشكل وألِقة.
زجاجٌ مضبّب
زجاجٌ أزرق
هاتفٌ أسود
شعلاتٌ بنفسجيّة تتضح في الضوء الساطع
ليس نهاراً أو ليلاً!
خارج الجحيم نجومٌ
أصواتٌ تمتدّ منبعثةً من السيارات
ظلالٌ بنيّة على الحائط في ضوء الغرفة
أجلس أو أقف لرغبتي برؤية واقع الحب والملامسة.
في الغرفة المقلوبة
أتذكّر حلماً بعيد الأمد للحيوانات المحنطة (بوم، ثعلب) في متجرٍ مظلم
راغباً فقط بنصاعة الألوان النقيّة والأشكال والمشاعر الجديدة
كنتُ أبكي عليها بلا جدوى
ما زال لديّ عشر سنواتٍ من الحياة من أجل الشباب
بيلي الولد 2 ، رامبو 3 وجين هارلو 4.
*****
الرداء
المسرنمون أشباحٌ!
أصواتٌ كأجسادٍ آتيةٍ من ضباب الرقاد
يطفو بعضها حول بعض--
قدمٌ عاريةٌ لا تلامس الأرض.
نتحاور بصوت من نحب
نتناقش بمواضيع في الحب
نخترعُ عذابات جديدة
وآلات لتحملنا.
عجائب نفخت في وجوهنا
عيونٌ من الياقوت أو الأوبال
معزولةٌ كالمعجزات
تسمعُ موسيقى الجاز في الهواء
ونحن نمضي
بأشكالنا كزهرة السلبوت 5.
مجمّدٌ
عالقٌ هناك
أكتافي لن تمسك بكِ
الأعمال البطوليّة لن تحرّرنا
الحب يحرّرنا
نحنُ أصواتٌ. النوم معنا
****
إلى ثالونيوس منك 6
كلّ شيء هادئٍ لا محدود
كحملٍ يدور في موسيقى الجاز.
أرى الظلال تنزلق خلفي.
أفالوكيتيشفارا! 7
أنا مباركٌ ومحصّن
أنصتُ إلى بهاء الملاحظات المطروحة
أنا حذرٌ لا أهتمّ بالحب.
أفالوكيتيشفارا! غوانيون. 8
أحبّ جمالك الشاحب
أرى رأسي الملتوي ووجهي الذي ينمو مجدداً
أسعى وراء ظلالٍ ضئيلةٍ داخلة وخارجة
تهتُ فيها جميعها.
أخبّئك من نفسك
يعجزني التعبير عن حبّي لك
فرحٌ لبرهة
كلّ شيء مشتعلٍ
وأنا أصيّر نفسي دهوناً لأكون شمعة.
حذار أيّها الرجل المجنون، أيّها القلب المشتعل
آه! آه! آه!
خوف قديم منهك.
آه! آه!
_________________
1 شاعر وكاتب روائي أميركي من محطمي التقاليد الأدبية، وهو إلى جانب كل من ويليام إس بوروز وآلن غينسبرغ، رائد من رواد مجموعة جيل بِيتْ. ويُعرف كيرواك بأسلوبه التلقائي في الكتابة، وتغطيته موضوعات مثل الروحانيات الكاثوليكية وموسيقى الجاز والإباحة الجنسية والبوذية والمخدرات والفقر والسفر.
2 أوهنري مكارثي، أميركي مسلح خارج عن القانون. شارك في حرب القطيع في مقاطعة لينكون، واشتهر بقتله 21 رجلاً، أي بمعدل رجل لكل سنة من حياته. كان طوله حوالى متر ونصف، عيناه زرقاوان، خداه ناعمتان وأسنانه بارزة. وُصف بأنه رجل لطيف ووسيم في بعض الأوقات، لكنه كان أيضاً عصبي المزاج وعنيداً، ما جعله رجلاً خطيراً ماكراً، إضافة إلى كونه يجيد استخدام السلاح. عُرف عنه أيضاً ارتداؤه القبعة المكسيكية ذات شريط أخضر. لم يكن بيلي الولد، Billy the Kid، معروفاً عندما كان على قيد الحياة، ولكن بعد سنة من مماته جعل منه مدير الشرطة باتْ غاريت، الذي كان قتله بنفسه، أسطورة عندما ألف عنه كتابًا مثيرًا للدهشة عنوانه "الحياة الأصيلة لبيلي الولد"، وعليه أصبح رمزاً في الغرب الأميركي.
3 شاعر فرنسي ولد في شارلفيل، وكتب أشهر أعماله وهو لا يزال في أواخر مراهقته. ثم توقف كليةً عن الكتابة قبل أن يبلغ الحادية والعشرين. ويعرف على أنه واحد من الطائشين المتحررين من الأخلاق والعادات. سافر في رحلات كثيرة إلى ثلاث قارات قبل أن يموت بالسرطان.
4 ممثلة أفلام أميركية ورمزًا للجنس في ثلاثينيات القرن العشرين عرفت باسم "القنبلة الشقراء". صنَفها معهد الفيلم الأميركي واحدةً من أعظم نجوم السينما على الإطلاق.
5 أبو الكبوسين، أو أبو خنجر، هو نوع من النباتات يتبع الفصيلة الكبوسينية من رتبة الكرنبيات.
6 عازف بيانو، عازف جاز، وموسيقي أميركي ولد في روكي ماونت وتوفي عن عمر يناهز 65 عاماً. تميّزت مؤلفاته بالتنافر التعبيري والحركات اللحنية الزاوية، والدمج بين إقحام شديد للإيقاع واستخدام مذهل للانتقال من مقام (سلّم) إلى مقام آخر والصمت والتردد. كما عرف بأسلوبه في ارتداء البدلة والقبعة ونظارة الشمس وتصرفاته غير الاعتيادية (رقصه خلال عزف الفرقة).
7 هو بوداسف الذي يجسد الشفقة لجميع البوذيين. وتم تصويره في مختلف الثقافات إما ذكراً أو أنثى.
8 أو غوانيين، Guanyin، هو بوداسف المرتبط بمفهوم الرحمة في بوذية شرق آسيا.
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة