1
تحبّ أمي أن تروي تلك الحادثة. "ما بعرف كيف نشل الجزدان من إيدي وركض، وركض بيّك وراه". كانا مخطوبين حديثًا، هي وأبي، يمشيان في أحد شوارع برج البراجنة، وكان معاش الشهر يا دوب واصلًا إلى حقيبتها، سافر معها مسافة الطريق من الحمرا إلى البرج، إلى أن دخل النشال حياتهما برقًا وميضاً كفلاش الكاميرا الذي يأخذك على غفلة ليغادر من فوره قبل أن تدرك ما أصابك. "ركض خلفه طويلاً إلى أن تاه منه"، تفخر أمي بأن أبي حاول بإصرار الشهم أن يعيد الحقيبة. طار المعاش، اشترى به النشال لهما قصّة صغيرة تُحكى للأولاد.
2
على الشاشة، تراجع مونيكا فاتورة الـ"كريديت كارد" التي سُرقت منها. تذاكر لمسرحيات مهمة لطالما أجّلت الذهاب إليها / مشتريات من ثياب فخمة / كل ما قد تحتاجه أو لا تحتاجه مِن عدة فنية للرسم / تسجيل في صفوف غطسٍ ورقص... كلما أمعنت مونيكا النظر إلى اللائحة الطويلة التي تنعي لها مالها المنهوب كلما استحال غضبها من السارقة غيرة منها. "هذه المرأة تسرق مني حياتي التي لم أعشها"... كل ما رغبت بعمله ولم تعمله، كل الأحلام الصغيرة التي كانت بالفعل في متناول اليد، حققتها السارقة "الصاروفية". وريثما وجدت مونيكا المرأة التي سرقتها، كانت كل رغبة لديها في خنقها أو حلشها من شعرها قد تبددت تماماً، لتحلّ محلها رغبة عارمة في أن تتلمذ على يدها. تريد أن تعرف كيف تعيش، كيف تعيش حقاً، وتريد من السارقة أن تعلّمها ذلك.
3
خبر صغير في مربّع في الجريدة: طلال حيدر: خذوا السيارة وأعيدوا إليّ قصائدي.
"وجّه الشاعر طلال حيدر النداء الآتي إلى سارق سيارته: الرجاء ممن سرق سيارتي بي. أم. ف. من شارع عبد العزيز قبالة فونتانا أن يعيد الأوراق والقصائد ويحتفظ بالسيارة تقدمة للعام الجديد وشكراً. طلال حيدر. النهار 3 كانون الثاني 1981، صفحة 5."
لم تعُد القصائد، ولم يعد أحد - ولا حتى الشاعر - يعرف ما كان فيها ولا كيف يعيد صوغها وإبدالها خَلقاً جديداً. هل كانت بنّا وركوة وجبلًا وجردًا وأقراط ذهبية وخيلًا وخيّالًا وشمسًا تسقط في مدينة بعيدة؟ هل يكون الحرامي قد سرق السيارة بجريرة القصيدة أم العكس؟ هل صار اللصّ شاعرًا؟
4
بكلتي يديّ أمسكتُ بكتف سترته وشددت بإحكام. لن أتركه يغادر مع مالي مهما كان الثمن. كيف يمكن لهذا اليوم البرليني البارد أن يزداد بروداً بعد؟ يتململ المحتال من تمسكي به. في جيبه 70 يورو هي كل ما أملك، سحبها بكل خفة من داخل محفظتي عندما كنت أفتحها لأسلمه 5 يورو فقط لا غير، أخذ كل شيء غدرًا، باسمًا، شاكرًا، وألقى نكتة وهمّ بالذهاب في حال سبيله. أشعرني أنني المجنونة في هذا المشهد! وهكذا وصلنا إلى هنا. أنا متمسكة بجاكيته، يمشي قليلاً فأمشي معه "عالدعسة"، أراه يفكر بالركض، وأعده أنني لن أتركه أبداً حتى يعيد ما أخذ. "اهدأي اهدأي. ويسكي؟"، سحب قنينته الصغيرة من جيب الصدر ولمعت في فمه سنّ ذهبية فيما دفع القنينة إليّ. بدا الرجل الضخم كأنه بحّار قديم لا يعرف دوار البحر. بدا - كيف أقول؟ - كأنه لا يعترف بمنطق الأشياء في دنيانا… خلفنا كان يقف الغرافيتي الشهير الذي يصوّر رئيس الاتحاد السوفياتي بريجنيف وإريك هونيكر، الأمين العام لحزب الوحدة الاشتراكية في ألمانيا، يتشاركان قبلة الأخوية الاشتراكية. "يا إلهي! ساعدني على النجاة من هذا الحبّ القاتل!"، مكتوب تحت الرسم الذي انفرد على هذا الجزء المتبقي من جدار برلين منذ عام 1990. اجتاحني الإحراج فجأة. لا بدّ أن سائحًا التقط صورة ما لي في هذا الموقف. هل أبدو لهم هستيرية؟
….
"هل أنتَ سعيد؟ إنني على وشك البكاء بسببك"، خرجت الجملة بلهاء تماماً من فمي. (عنجد؟ أنا على وشك البكاء بسببك؟ وهل سيعتذر يعني ويعيد المال ويراضيني؟) لكنني أخرج عن السيطرة. دموع الإحراج تسابق دموع الشعور بالخديعة والتوحش والوحدة في مدينة غريبة وباردة أطأها للمرة الأولى. لكنّ وجه النصّاب لان. سحب المال من جيبه ضاحكاً بخبث وأعاد جزءاً منه إليّ فقط. حسناً، سأقبل بهذا. طائرتي تقلع صباح الغد إلى لبنان، بعيداً عن هذا المكان الكئيب.
أفلت الرجل ويمضي في سبيله. يمشي الهوينا - ولا كأنّه لصّ ومحتال. أمشي إلى درج قرب الجدار، أجلس وأنهار. أشعر بالمهانة لأنني خُدعت أمام الناس المتفرجين، وبشيء من الفخر لأنني قاومت، وبشعور آخر لم أفهمه تماماً حول ما حدث في تلك الدقائق التي شعرت بها كالساعة، من تلك العلاقة المتشنجة مع النصّاب ذي السن الذهبية. كان ذلك كأنني اكتشفت حقلًا جديدًا للشعور. كأننا كنا متضامنَين في تسوية كانت عادلة. كأنّنا كنا غرباء، أعداء وأصدقاء، كلٌّ منا في حياة الآخر حضور مؤقت جداً، للأبد.
5
يسأل "الضحية" نفسه عن الذي سُرق منه، فيجده أكثر بكثير مما سُرق، بل ربما يجد قربه نذرًا مما نُبش من جوفه بدل ما أُخذ. مقايضة تُجبَر عليها، مقايضة غير عادلة... يَسرق أحدهم ما هو لك، فتجد على كتفك عصفور الخوف (الشك، اللاطمأنينة، الشجاعة أحياناً، الغضب، الإحباط…). تتركك الخديعة عرضة لأهوال السؤال: هل يمكن لأي شيء أن يكون لي حقاً؟ هل أكون أنا نفسي قبل وبعد ما أُخذ، قبل وبعد ما أعطيتُ على غفلة من الزمن؟ إنه تحوّل مذهل، كأن يوقظك أحدهم من شرودٍ عميق فتلتفت، أو كأن تستوعب مرة واحدة أنّ العالم كما عرفته قد انتهى.
أجدني عند هذه النقطة أسمع أغنية "كارما كاميليون" وأفكر بالسارق الصغير كحرباء تخريبية. يشتري القصص، يخطف القصائد، يصوغ ذكرى لحبيبين، يصير معلّمًا في فنون العيش، يدلّني على ضعف لا أحبه في نفسي. السارق الصغير حقير كبير أحيانًا، ولكنه دائمًا أشياء أخرى أيضاً. هو إغراء لحظةٍ وقحة تعده بما ليس له (بعد) - أحلامٌ حمراء، ذهبية، خضراء. الغريب في الأمر هو أنني عزمتُ بداية على التفكير بكيف يكون السارق الكبير، لكنني لم أعرف كيف أفكر فيه. ما مِن حقل يجمعنا. ما من حقلٍ يجمعه بالسارقين الصغار أصلًا، بل ربما حرامٌ أن يُنعت الاثنان بالاسم نفسه. السارق الكبير، اللص الحقّ، ليس سوى ذلك المملّ البلا وجه الذي لا ينفكّ يقول نكتة لا تضحك أحدًا. نكتة مثل "لا تقلقوا، كلّ شيء على ما يرام." كيف أفكر فيه هذا؟ تتراءى لي فقط هيئة مقصلة بيضاء لامعة. يا الله كم هي لامعة!
الصورة: من كتاب steal this book لـ آبي هوفمان
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة