" أنتَ بطيءُ الفهمِِِ، ولكن انتبه جيّدًا وسوفَ تفهم. لكي نخلّصَ العالمَ، يجبُ أن يُصلَبَ المسيحُ، ولكي يُصلبَ المسيحُ يجبُ أن يشيَ به أحدُ النّاس. هكذا إذن ترى أنّ وجودَ يهوذا شيءٌ ضروريٌّ ليتحقّقَ خلاصُ العالمِ، بل أكثرُ ضرورةً من وجودِ أيِّ رسولٍ آخر. وفي الحقيقةِ إنّ عدمَ وجودِ واحدٍ من الرّسلِ لا يغيّرُ في الأمرِ شيئًا، ولكن لولا وجودُ يهوذا لما تحقّقَ شيء .. يهوذا هو الشّخصُ الثّاني في الأهمّيةِ بعدَ المسيحِ، هل فهمت؟.."_ نيكوس كازانتزاكيس، المسيح يُصلَبُ من جديد.
***

إنّني أفقدُ عقلي يا يوضاس. أفقدُه، أتسمَع؟ أيُّ عامٍ هذا؟ عشرون وألفان، تقول؟ إنّني لا أطيقُ التّماثل. اللّعنة. لا يمكنُ لهذا أن يكونَ جيّدًا. مئةُ عشرينٍ ازدادَتْ عشرينًا. لا يعجبني هذا البتّة. البتّة. البتّة. هذه كلمةٌ لا بأسَ بِها. تبدو طريفةً إذْ كرّرْتُها. 

إرفعْ صوتَ الموسيقى، أسمِعْني حالًا. 

I know when to go out
Know when to stay in
Get things done

ألا لعنةُ اللهِ على الكاذبين! وهلْ هو مفردٌ أم زوجيٌّ رقمُ آلته السيّارةِ، هذا؟ كيفَ يعرفُ متى يخرجُ ومتى يربض؟ يظنّه سيّدَ نفسه؟ ثمّ يزيدنا البهتانُ الأكبر: غيت ثينغز دون! متى كانت آخرَ مرّةٍ أنجزْتَ بها عمَلًا يا يوضاس؟ أنا منذُ دهرٍ لم أكمِلْ قراءةَ كتابٍ واحد. أشعرُ بالحمقِ فيَّ وبالجهالةِ عن جانبيَّ وأسجّلُ إعجاباتٍ على ستاتوساتٍ لم أقرأ إلّا أوّلها أو نُتفًا من آخرِها، لكنّني في الوقتِ عينِه أرى في نفسي حِكمةَ نبيّةٍ معاصِرة. فقط لوْ يختفي هذا الوباءُ، سأصيرُ ما أقول. لكن، يالله، هذا أفضلُ، فلا أكثرَ بؤسًا من الحكمة. توكسيك پوزيتيفيتي يسمّونَها في هذه الأيّام، لا؟... لأكُنْ ملعونًا. 

I catch a paper boy
But things don't really change
I'm standing in the wind
Yet I never wave bye-bye
But I try, I try

يشهّدُ اللهُ أنّي أحاولُ، أيضًا. هيّا، هيّا، هيّا (هذه أيضًا طريفةٌ عندَ التّكرارِ، هيهي!)... هيّا اخرجْ من هنا وخُنْ وطنَك لكي يصلبوه وننتهي من هذه السّيرة. إنّني أكرهُك يا يوضاس، وأكره الوطنَ أكثر. 

***

تحتَ الأرضِ في مستودعِ إحدى البناياتِ المقرفةِ في بيروت، ذرعَ أبو كوكو المساحةَ ذهابًا ومجيئًا عدّةَ مرّاتٍ – من الحائطِ إلى الحائط. لقد كانت تلكَ ليلةَ "الشّتوةِ الأولى" في كانونٍ أوّلٍ بيروتيٍّ دافئٍ أكثرَ من اللّازم. وقد كان أبو كوكو يبكي ويسمعُ دايڤد بووي وقد ابتلَّتْ لحيتُه الأقلُّ من الطّاهرةِ، فيما يحدِّثُ نفسَه وحيدًا: "تَفْتِفي علينا يا سماء. أمَا أنّني واللهِ أكرهُكِ يا ذاتي وأكرهُ أوطاني."

****

في اللّيلة ذاتها، كنتُ أنا في ألمانيا، في شقّةِ المهجعِ الطّلّابيِّ الّتي تجعلُ من بنايةِ بيروتَ تلكَ تبدو تحفةً معماريّةً بالمقارنة. تحتَ الصّفرِ بقليلٍ كانت درجةُ الحرارةِ، وكانت معنويّاتي تلازُمها هناك، في الدّرجاتِ السّالبةِ، تلهو وتلعبُ وتسبُّ وتصدُّ وتهدأ.

الآنَ أتوقّفُ عن استعمالِ ضميرِ المتكلّمِ، فهو يصيبني بالإحراجِ كما كتابةِ أيِّ نصٍّ في هذه الأيام. لنقُلْ أنّني "هي"...  

تسمعُ نشيدًا تحبُّه. "الشّعبُ استيقظَ يا عبّاس"، وتفكِّرُ، هذا أحسن. "الشّعب يريد"، ولكن لكي يعرفَ ما يريدُ، فإنَّ عليه أن يستيقظَ أوّلًا. لكن، لا. ما هذا الهبل. ما "يريدُ" هو ما "يرغبُ"، والرّغبةُ مدفونةٌ، تعرفُك أكثرَ ممّا تعرفُها. الشّعبُ يريدُ، يرغبُ، يشتهي، وهذه أمورٌ تعرفها النّفسُ قبلَ أن تفقَهَ معناها، أي قبلَ أن تستيقظ. هل الأمرُ كذلك؟ أيّهما أفضل؟ كيفَ الطريقُ لكي يعرفَ من يُريدُ ما يُريدُ وكيف يُريدُ ولماذا أراد؟ "الإرادة". ما هذه الأخرى؟ هل هي غيرُ الرّغبة؟ "القدرة"، "القوّة"، "العزم"؟ لكن، قبلَ الإرادةِ، ما الشّعب؟ أغمضي عينيكِ وقولي "الشّعب"، تتراءى لكِ كتلةٌ صمّاءُ يصعبُ أن تجدي في نفسكِ حبًّا لها إلّا في ما رحمَ ربّي من مواقف.

"يا وشمَ الدّمدمِ والرّفضِ. يا سرَّ العزّةِ في أرضي." تتابعُ الأنشودة. ربّما لو كانَ اسْمُنا الرّافضونَ (disambiguation: الرّافضةُ – غير شي). المُدَمْدِمُون؟ النّاس. فقطِ النّاس. حتّى هذه أحلى من الشّعبِ، وأكثرُ منطقيّةً. 

تفكّرُ هيَ بأنْ لا شيءَ جيّدًا سينتجُ عن لعبةِ الپينغ پونغ الذّهنيةِ هذه. لا شيءَ سوى الشّعور بالتّفاهة. تستذكرُ المرحومَ الأنثروپولوجيَّ الشّابَّ، دايڤد غريبر. لقد حاولَ أن يجدَ مصطلحًا آخرَ غيرَ الشّعب. الرّأيُ العامُّ، المستهلكونَ، النّاخبونَ، اليدُ العاملةُ، السّكانُ، والشّعبُ، كلّهم الشّيءُ نفسُه تقريبًا، حسبَ السّياقاتِ الّتي يُذكَرونَ فيها. ما يجمعُهم جميعًا هو كونُ تصنيفاتِهم ترتبطُ بشكلٍ مباشرٍ وأساسيٍّ بالمأسسةِ والبيروقراطيّة. هم كذا لأنّهم يفعلونَ كذا ويندرجونَ في وظيفةِ كذا ويهمّنا من أمرِهم كذا. لقد قالَ المرحومُ ما معناه، "تالله، لهذا هو "التّغريبُ" في عمْقه". تسرحُ الفتاةُ بأفكارها من جديد. إنَّ المرء يشعرُ بالاغترابِ إذ هو جزءٌ من ماكينةٍ تصنِّعُ لا شيءَ سوى الاغتراب. موظّفٌ، شاشةٌ، ATM، أوراقُ مستشفى عليك مَلْؤها قبلَ أن تداوي إصبعَك الوسطى المهشّمةَ بالخطأ حينَ طبشْتَ عليها بابَ كابينةِ المطبخِ حينَ كنتَ تفكّرُ "أنا ثائر". 

الاغترابُ مصّاصُ دماءِ المخَيِّلة. بالنسبةِ لغريبر، إنّ لحظاتِ الانتفاضِ هي اللّحظاتُ الّتي تتعطّلُ فيها الماكينةُ البيروقراطيّة. الدّولة؟ ها! نضحكُ من عفونةِ فكرتِها. ثمّةَ أفقٌ رحبٌ وسيعٌ ينفتحُ في تلكَ اللّحظات. يبدو كلُّ شيءٍ ممكنًا. لقد استعادَ النّاسُ، أيًّا كانَ اسمُهم، القدرةَ على الخيال. يا له من أمرٍ شديدِ الروعة! يا الله! لكنَّ أمرًا ما يؤرّقُ الفتاةَ - أقصدُ يؤرّقُني. إنَّ هذه اللّحظاتِ ممكنةٌ دائمًا بدليلِ حصولِها مرّاتٍ ومرّات. لقدْ شاهدتها بنفسي في الشّارعِ وعلى التّلفاز. يقولُ الخائبونَ قبلَنا أنّ "الواقعَ" أقوى. إنّه عنفُ الدّولةِ وعنفُ كلِّ الأشياءِ وهو الوصيُّ المؤتمنُ على تشغيلِ الماكينةِ البليدةِ معدومةِ المخيّلةِ، الدّولةُ والنّظامُ والمؤسّسات. 

كلُّ شيءٍ جميلٌ ومذهلٌ في الثّورةِ، في الرّبيعِ، في سِفر التّكوينِ، حتّى يخرجَ رجلٌ من بينِ المتخيّلينَ يقولُ "ولكن، مهلًا، لنَكُنْ واقعيّين". فتجيبُه العبارةُ اللذيذةُ المبتذلةُ الّتي رشّها سكرانٌ ثوريٌّ على حائط. يا عزيزي، يا صديقي، يا حمار، أرجوك، بل "كن واقعيًّا، واطلبِ المستحيل".

كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة

لمزيد من التفاصيل أنقر هنا
Patreon support button