زار الجغرافي الفرنسي والمستشرق فيتال كينيه مدينة بيروت في أوائل العام 1890. وأثناء زيارته وثّق ما رأى: "خمسة حمّامات عامة، وستة مستشفيات، وخمسين عيادة طبية، وثلاثين صيدلية، وأربعة وعشرين مقبرة، وثلاثين بازارًا، وثلاثين متجرًا للقافلة، وخمسة وعشرين فندقًا، وثلاثة كازينوهات، وسيركات، وخمسة وخمسين مقهى، عشرة شواطئ عامة، وحدائق عامة، وثلاثة وعشرون مركزًا للشرطة، وعشر شركات نقل، وثلاثون صانع ساعات، وخمس وأربعون صائغًا، واثني عشر مصورًا، واثنتي عشر مطبعة، واثنتي عشر مكتبة، وعشر نوافير عامة".[1]
من الصعب قراءة هذه التوثيقات بمعزل عن التاريخ، أي بمعزل عن سنة 1890. أول ما يجيء لي عند قراءة مشاهدات كينيه أن أحدًا ما، او شيئًا ما، سرق هذا التاريخ منا. تطوف السرقة كتفسير وحيد لاندثار كل هذا وتسقط الاحتمالات الأخرى، وهو تفسير فطريّ قائم على عيشنا بمدينة مسلوبة منذ بدء الذاكرة، وأول ما سُلب منها هو تاريخها. تسقط أيضا الأنا، ولذلك أقول "منا". يأتي هذا السقوط جرّاء المعرفة الفطرية بالفضاء العام الذي نتشاركه أحيانا ولكن بشروط.
أين ذهبت كل هذه المباني ومن سرقها منا؟ يمكن هنا ربط مفهوم السرقة بالهدم المباشر للمبنى، أي سرقة المبنى عبر هدمه، عبر محوه تمامًا من الخارطة والذاكرة والموقع والوجود. ولكن يمكن أن تتمّ السرقة عبر الهدم المجتزأ، أي غير الكامل. كأن تهدم مبنى من الداخل وتُبقي واجهاته، فتُبقي صورة الشيء وتمحو كل ما جرى، أي كل قصص السكان والغرف والجدران الداخلية التي تفصل حيوات الناس، والأدراج والأبواب.. أحيانا تكون السرقة انتقائية بعناية، فتتمّ عبر سرقة نصف مبنى، أو عبر سرقة جزء خاصّ جدا من المبنى، كنافورة أو عامود رخاميّ أو سقف مزخرف يحاكي حقبة معينة من تاريخنا المعماريّ.
يمكن للسرقة أن تكون مبطّنة، والسرقة المبطنة سرقة خطيرة لأن لا اسمَ واضحًا لها، ولا حدودَ جليّة لها، فهي تُبقي على وجود الشيء ولكنها تسرق منه الكثير. يرتدي هذا النوع المحدّد جدا من السرقة وجهًا من الصمت، لا وجها صامتا. تتمّ السرقة بصمت تامّ، لا بخفاء. أي بصمت تامّ ولكن على العلن. والسرقة المبطنة تطال جوف الشيء، وجوف الشيء داخله ولكنه خارجه في أحيان كثيرة. تكون أجواف المباني حجارتها وتصميمها، وتكون أيضا أجوافها من سكان وقصص ومحيط وتاريخ وممارسات فضائية. لذلك، تكون معاني الأبنية منبثقة من داخلها ومن خارجها.
والسرقة المبطنة سرقة مغايرة، يكون عنفها رتيبًا وخافتًا. وأحيانا، لا يقع إجماع على تسمية الفعل. فالسرقة تعني اختفاء الشيء وعدم ظهوره، وبالتالي، تتطلّب بحثًا لاستعادته. ولكن، كيف نسمّي فعل استئصال العنصر المعماري وزرعه في مكان آخر، مخالف لمكانه الأصيل؟ ذكر المستشرق الفرنسي كينيه عشر نوافير عامّة. كانت النوافير آنذاك عناصرَ مهمّة لناحية تمهيدها لعصر الحداثة، ورمزًا لتقدّم العمران تتوسّط ساحات جامعة للناس تحاكي الفضاء العام، وتعكس صورة الطبقة الحاكمة.
حاولت بجهد أن اتّبع هذه النوافير في الخرائط التاريخية، أين كانت النوافير العَشر؟ لم أجدها. أحيانًا، كنت ألمح دائرة صغيرة مرسومة وسط حديقة، أتخيّلها نافورة. ولكن من النوافير المهمة والتي لا تزال موجودة في حديقة الصنائع. في 1 أيلول من العام 1900 شُيّدت نافورة الحميديّة في ساحة السور، حاليّا ساحة رياض الصلح، من تصميم المعماري اللبناني الأول يوسف أفتيموس. وقد شيّدت هذه النافورة احتفالا بعيد السلطان عبد الحميد الثاني، وتعلو النافورة نقوش باللغة العربية والتركية تمجّد حكم السلطان. وكانت النافورة تتوسّط الساحة والتي بدورها تتوسّط الطريق، بل تحدّد الطريق، وتقع أمام السراي، على محور تماثل المبنى.
في إحدى الصور، على الأرجح أنها الأكثر قدمًا، يتجمع الناس حول النافورة، أو السبيل الحميديّ، ويشربون منه. لا حدودَ بين النافورة والناس والطريق والساحة. لكن حدث شيء ما في وقت لاحق من التاريخ أدّى إلى تسييج النافورة بسور حديديّ. على الأرجح أن صورة السبيل المسيّج تعود إلى بيروت تحت حكم كميل شمعون. في هذه الصورة بالذات، سُرقت النافورة من الناس، ومن ثمّ نُقلت إلى الحديقة.
الآن تقع النافورة في شرق الحديقة، لا في وسطها. فهي لا تتوسّط ساحة، ولا طريق، وبالتالي لا تمركز لها غير تاريخها لمن يلمّ به. ولا ماء فيها وبالتالي هي أشبه بتمثال لا بنافورة. لم تُسرق النافورة، فهي محطّ للحمام الطائر فوق الحديقة، يرسو عليها عند التعب. وهي لعبة للأطفال يدورون حولها، فهي بالتالي لم تُسرق. ولكن سُرق امتدادها، سُرقت منها الوظيفة والساحات والماء. وبعد أن كانت هي ترسم الطرقات ومسارات الناس من حولها، أصبحت ملحقًا بشرق الحديقة.
أتخيّل النافورة منقولة إلى مكان آخر في وقت لاحق من التاريخ. لا تكاد العناصر المعمارية في هذه البلاد أن تتجذر في محيطها حتى تُسرق منها روحها. تلك هي السرقة المبطنّة، أن تُبقي وجود العنصر المعماري، وأن تسلب منه كل ما جعله يوما ما هو عليه.
*جميع الصور مأخوذة من صفحة "التراث اللبناني" و"تراث بيروت"
[1] Hanssen, Jens. "Fin De Siècle" Beirut. Oxford University Press, 2005, p.195.
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة