الصورة المرفقة رسم: "رولا خوري"
- ثمة رسائلُ وعلبُ بروزاك ودفاترُ صغيرة تدوّنين عليها ما يخطر في رأسك. ثمة رسائل كتبتها أنا أيضا، ودفاتر كثيرة. لم يقرأها أحد. لو أدخلتكِ عالمي؟ لو قرأت دفاتري؟ هل كنتِ لتقتلي نفسكِ؟-
إلى الجهة اليسرى، مدرستي التي كنت أرتادها في الصغر، بؤرة عقد نفسية وذكريات سوداء. إلى الجهة اليمنى، مقهى الدانكين دوناتس في شارع الحمرا. ثمة هلع كبير. رصاصة في الرأس، رجل قتل نفسه، بات جثة على مقربة مني. لم أهلع. إنها الجثة الثامنة التي تهوي على مقربة مني. لم أهلع. بكيت قليلا وأنا عالقة في سيارتي، أحرقتني رجلاي، وشدّني بطني إلى الغياب الكبير. أنا موجودة تماما لكنني لا أعي هذا الوعي. أمشي بمحاذاته، غير أنني لا أصل إليه تماما. أشغل الراديو. لا أريد أن أسمع من حولي. إليسا تغني: "هنعيش.. تحت أي ظروف". أوقف الصوتَ. لا يختلف كلامها عن كلام المعالجين النفسيّين كثيرا. تصفّحت الفايسبوك. جميع الناس يكتبون عمّا حصل. كلهم يكتب عن الانتحار. هربت منهم. دخلت إلى صفحتك. إلى اليوم، لم تضع إدارة الفايسبوك شارةَremembering أعلى صفحتك، علما أن أصدقاءك يكتبون لك من وقت لآخر، كم اشتاقوا إليكِ. لمَ لم يهتمّ الفايسبوك بموتك كما اهتم بالآخرين الأموات؟ أعتقد أن السبب عائد لعدد الأصدقاء المتدنّي على صفحتك. أحيانا أود لو أضع لكِ رابط غنيتنا المفضلة. أسمعها من وقت لآخر وأبكي. أسمعها وأرانا، نحن الاثنتين، في الدار البيضاء، في الحمام الشاسع من الطابق الأول، في حوض الاستحمام الكبير. وأنت، تغرقين في الماء الساخن وتغمضين عينيك وتغنين" Au nord, c'étaient les corons, La terre c'était le charbon" . تقول إيمان مرسال: "قد يكون الموت هو عدم القدرة على تبادل ذكرى مشتركة بين شخصين". كيف لي أن أرسل لك الرابط الآن؟ أحيانا، أضع الأغنية وأنتظر منك إشارة. هل تسمعين؟ بائسة هذه المبادرة. بائسة جدّا. لكن ما العمل؟ أحيانا، أنظر إلى صورنا على هاتفي الذكي وأضحك وأقول في سرّي..."حمارة" ثم أضحك. كنت "حمارة" كبيرة، وغلطي الأكبر أنني لم أشاركك الحمارة الكامنة في نفسي، ولم أشاركك فكرة أنني أيضا أعاني من نوبات هلع وتوتر، وأنني أخاف الوحدة، وأنني أيضا في الكثير من الأيام لا أقوى على النظر في المرآة وأنني عندما أحزن أستطيع أن أفرط بتناول الطعام كالمجنونة، وأنني أيضا أبكي إن انتقدني أحدهم بطريقة جارحة. بعد رحيلك، باتت نوبات حزني أطول، لا تعرف الخفّة، بل باتت تحفر طويلا. كتب السيد "حاء"، مرةً، قبل بضعة أيام من رحيلكِ، وكنتِ قد شربتِ معه القهوة في كاريبو: "الأشدٌّ غرابةً من حدَثِ الموتِ أن يموتَ شخصٌ قد سمعناهُ مرة ينطِقُ ألفاظا في الحزن والفرح، لا فرق. أعني أين ذهبتْ هذه الألفاظ؟ هل رقدتْ معه في المكان الفسيح؟ هل بقيت في آذان من أصغَوا إليه ردحا من الوقت ثم سربتْ إلى آخرين وهلمّ جرًّا؟ والأشدُّ من الأشدّ غرابةً أن يموت شخصٌ قد لمسناه. أعني أين أضحى هذا الملمسُ وذاك الشعور؟". أعرف جيدا آخر ملمس لنا. كان رأسك على ركبتيّ، تسخرين مني كونيَ كنت قد باشرت لتويّ باتباع حمية الصيام المتقطع، وتغرينني بصحن سلطة تعدّينه لي. رفضت مرارا. الآن، أشعر بحرقة في فمي لأني لم أتذوق الطعام من يديك النحيفتين وأندم كثيرا لأني اتبعت هذه الحمية الغبية. أعرف أنك الوحيدة القادرة على جعل الطعام بين يديك ذو طعم مختلف. انت، آلهة الطعام، خلقك هو وخلقته أنت. تحرقني رجلاي كلما حزنت. وأحيانا لا تقويان على حملي. بعد رحيلك، بدأت ثورة 17 تشرين. صرت أشارك في المظاهرات. والآن، لا شيء يحدث. بعد رحيلك، مكثت أياما طويلة في المستشفى. فكرت بك مرارا، وفهمت لمَ تآلفت مع المكوث في المستشفى. أحببت المستشفى وأحببت الممرضة التي اهتمّت بي. كانت حزينة جدا. غير أنها كلما رأتني قابلتني بابتسامة غائرة. كان كلامها قليلا، قليلا جدّا. مرة واحدة نظفت لي خرائي، ونظرت إلى وجهي قائلة: "ما تستحي أنا متل إمك". اردت القول لها انني لم اخجل. بل أردت عناقا طويلا. اردت ان اخبرها انني عندما رأيتك تفرغين أحشاءك أحسست انك مني و انني منك. نحن، نتشارك أوساخنا و أوجاعنا ونتعانق. تصالحت مع رحيلك، نوعا ما. أبقيت الحزن، وجعلته يتمدد. لم أرفضه، لم أحاربه. ثمة مشهد واحد لم ولن أستطيع أن أتصالح معه. الدقائق القليلة قبل موتك. أخبرني السيد "ميم" أن اللحظات البسيطة قبل الموت هي الآخرة. هي السجن الأخير حيث يتمدد الوقت إلى ما لا نهاية، حيث نحاسب أنفسنا ونسترجع حيواتنا السابقة واللاحقة، ونعلق هناك. نحن نصنع آخرتنا. أعجبتني الفكرة كثيرا، ووجدت فيها عمقا فلسفيا خطيرا. أعجبتني حتّى رحلتِ. خفت عليك كثيرا من هذه اللحظات الفاصلة. أين كان رأسك؟ أعرف أنكِ فتاة ذكية جدّا. وأعرف أن عمقك الفكري وشعورك عظيمان جدا ومؤذيان إلى حد بعيد. أين كنت في هذه اللحظات؟ هل كنت في فرح كبير استقبالا للموت العظيم؟ أم ندمت ووددت لو عدت أدراجك ولم تقفزي من أعلى المبنى؟
بعد رحيلك، لم أزر قبرك. لا أدري لمَ أخاف القبور. لكنني أفكر بك يوميا، أوقاتا طويلة. بعد رحيلك، اكتشفت أكثر ما أحببته فيكِ. هي الأشياء التي أشتاق لها أكثر من غيرها. شعرك الذي يشبه خيطان الذهب، الأصوات التي تصدرينها عندما ترين أو تلمسين حيوانا ما، ملامح وجهك عندما تغضبين من شيء ما، كيف يتحول رقصك من خوف تام من نظرات الآخرين إلى لحظات التخلي والرقص بجنون وتفلّت. بعد رحيلك باتت ساعات انقطاع الكهرباء اطول، اطول بكثير. بعد رحيلك، فتك فيروس بالبشرية اسمه "كوفيد-19". بعد رحيلك باتت الناس أكثر حزنا، يمشون في الطرقات ناكسي الرؤوس، محدقين بالأرض. بعد رحيلك، لم اعد اقوى على قراءة النصوص الطويلة على الفايسبوك، وبتّ اضع زيتًا مرطّبا على شعري كما كنت تفعلين، علّك تريني من فسحة ما وتضحكين. بعد رحيلك قرأت رسائلك. كتبتِ ما يلي: "أنا أكتب، إذًا أنا أصرخ". عندما أقرأ كلماتك أسمعها تدوي كصريخ مهول. وهي بالفعل تصدر أصواتا عميقة وبعيدة، وأحيانا تصدر أصواتا قريبة جدّا، كأنها تصدر من بطني.
بعد رحيلك، تحول جسدي لمصنع صدِئ. أكتب هذا النص ويدي اليمنى تؤلمني. بعض الحروف تؤلمني أكثر من غيرها. كالـ ياء والـ راء والـ صاد. تسقط هذه الحروف عن السطور المستقيمة. لا تمشي بخط أفقي واحد. وعليه، عليّ أن أحرك مفصلي أكثر وأن أضغط على القلم أكثر كي أستطيع كتابة ما أريد. الحروف توجعني. والكلمات توجع أيضا. بعض الكلمات، مثلا، يوجع مناطق معينة من الجسم. تصب الكلمات القاسية على الرجلين تماما. لا نقوى على المشي جراء تعرضنا لها. لا نقوى على المشي فوق الكلمات القاسية. إنها تقف حاجزا أمام خطانا. يدوم تأثير بعض الكلمات على الأرجل يومين أو ثلاثة.. بعدها نستطيع مواصلة المشي المعتاد مع ألم يندثر بمرور الزمن. ينتقل الألم إلى مكان آخر. تصعد الكلمات من الرجلين لتمكث على رأس المعدة؛ معقلِ الروح عند الرومان قديما. للكلمات القاسية يدان من حديد وأنامل شائكة. تحفر خواءً لا متناهيا عند باب المعدة تماما. فجوةٌ في وسطنا، تنخر الكلمات عظام الساقين من ثم تنخر البطون. وددت لو اخبرتك انني اخاف الكلمات أيضا. أكتب الآن، لعلّك تقرأين.
بعد رحيلك باتت أحلامي أشد غرابة من المعتاد. أراك دوما، تأخذين بيدي إلى وادي الظلمات. غابات شاسعة. وحين يصير القمر بدرا ينمو لك رأس ثعلب شديد الجمال. فأراك كما انت حين كنا صغارا وخفافا. نقفز في الدار أمام البيت وكأننا نملك العالم. نقفز خفافا خفافا وكأننا نعرف ثقل الأيام اللاحقة. أمسك بيدك وأقرأ لك جملة تحبينها حبا جما: "قال بعضهم (أي الفلاسفة) خلق الله تعالى للمتحابّين روحا واحدة فشقها نصفين وأسكنهما بدنين، فإذا انشق الشخصان حّن الشق إلى الشق، وسمّي الشوق شوقا لحنين الشقّ الى شقّه".
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة