English version
يوم السبت 4 مايو، قررت أنا وزميلة لي شراء بعض الكعك المحلّى للتبرع به لمخيّم اعتصام طلاب جامعة تورنتو. وبينما كنا نقود في وسط المدينة بحثًا عن مكان لركن السيارة، تجمّعَ مئتا شخص من موظفي الخدمة العامة استعدادًا لمسيرتهم السنوية بمناسبة عيد العمال، لكن هذا العام كان العيد مختلفًا. هذا العام كانوا يرتدون الكوفية ويحملون الأعلام الفلسطينية، وانضمت إليهم مسيرة من ألف شخص نظّمتها حركة الشباب الفلسطيني في تورونتو. وبعد العثور على مكان لركن السيارة بالقرب من شارع كوين، شققنا طريقنا نحو كينغز كوليدج سيركل. وقبل الوصول إلى البوابات، استقبلتنا أصوات طبول وهتافات مجموعة تضم أكثر من ألف شخص يسيرون في مسيرة تضامنية نحو مخيّم الاعتصام.
مثل باقي مخيّمات الاعتصام الجامعية التي ظهرت حول العالم، كان مخيّم جامعة تورونتو مستوحى من الطلاب المتظاهرين في جامعة كولومبيا. وفي حين كانت هناك بعض المواجهات بين الطلاب والشرطة في مناطق عدّة في كندا، كما هو الحال في جامعة كالغاري ومكغيل، لم تكن هناك مواجهات توازي في عنفها ما شهدناه في مختلف أنحاء الولايات المتحدة.
أثناء وجودنا هناك، كانت حالات العنف التي شهدناها محدودة ومتفرّقة، ولم تكن بمبادرة من أجهزة الأمن والشرطة، ولكن من حفنة من المتظاهرين المعترضين على إنشاء المخيّم.
وأول مواجهة حصلت كانت مع رجل كان يسير باتجاهنا. وعندما رآنا على مقعدنا نشرب القهوة والكوفية حول أكتافنا، شعر بأنه مضطر إلى البصق من خلال الفجوة الموجودة في أسنانه الصفراء، "فخورون بأنفسكم تدعمون الإرهاب؟". لم يجد أي سبب حقيقي للتوقف أمامنا، فقال ما قاله وتابع سيره، لكن صديقيتي صاحت من بعده: "هل تشعر بالارتياح لأنك قلت ذلك؟"
المواجهة الثانية كانت مع شاب طويل القامة يرتدي علمًا عملاقًا تتوسّطه نجمة داود، وقد وصل بعد أن انتهى المتحدثون في المسيرة من خطاباتهم، وبدأ يمشي ذهابًا وإيابًا بين الحشد بينما كان المعتصمون المُسلمون يؤدون صلاتهم.
أما الثالثة فكانت مع امرأة شابة لم تقل الكثير، لكنها في البداية سارت بشكل عادي وسط الحشد، مرتدية حذاءً رياضياً أبيض من شركة نايكي مزيّن بنجمات داود زرقاء صغيرة. بعد الصلاة، عندما استأنفنا المسيرة إلى الطرف الآخر من الحرم الجامعي، شَرعَت هذه الشابة في تمزيق الأعلام الفلسطينية الصغيرة التي كانت مثبّتة على أعمدة السياج على طول الطريق. وحين لاحظ الحشد ذلك، قام أشخاص مشاركون في المسيرة من خارج السياج بالوقوف بينها وبين الأعمدة، وسرعان ما شكّل الطلاب داخل السياج خطًا فاصلاً على طول الأعمدة المعلّقة أمامها.
كثيرون كانوا يشاهدون وحشية الشرطة وهي تتكشف في الجامعات في جميع أنحاء الولايات المتحدة، وقارنوا المجريات مع ما جاء في رواية أورويل "1984". ونظراً للقوة المفرطة التي تستخدمها الحكومات، وبخاصة في الولايات المتحدة، لقمع حركة الاعتراض، وكمية الأموال التي تُضخّ لإطالة أمد السرديات الكاذبة على الرغم من وصول الناس المباشر إلى الواقع من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، كان من السهل أن نرى علامَ تستند تلك المقارنات. غير أن قلّة عمدوا إلى المقارنة بين عالمنا الحديث وعالَم أستاذ أورويل، ألدوس هكسلي. والمثير للاهتمام في عالم هكسلي "عالم جديد شجاع" (1932) هو أنه سليل مباشر لعالم يخضع للسيطرة الأورويلية. ويُعتقد أن عالم هكسلي قد نشأ من داخل نظام يشبه عالم "1984"، كما تكشف لنا إحدى المذكّرات المجزّأة لبطل رواية هكسلي:
"في النهاية، قال مصطفى موند، أدرك المراقبون أن القوة لم تكن مفيدة. الطرق الأبطأ ولكن الأكثر ضمانًا للنشوء الخارجي (ectogenesis)، والتكييف البافلوفي الجديد (Neo-pavlovian conditioning)، والتلقين في اثناء النوم (Hypnopaedia).."
عالم هكسلي هو عالم المادية العلمية، ديستوبيا الرفاهية، في حين أن عالم أورويل مبني على القوة المفرطة والأكاذيب. في عالم أورويل، يتم إخفاء الحقيقة والتلاعب بها، ويتم قمع الاعتراض من خلال إجراءات عقابية مؤلمة، بينما في عالم هكسلي، المعلومات متاحة والاعتراض مسموح، لكن الناس مرتاحون للغاية، ومتكيفون بيولوجيًا مع طبقتهم وظروفهم، لدرجة أنهم لا يشعرون بأي رغبة في التمرد، فكل شيء بُرمِجوا على أن يطلبوه متاح لهم. واليوم، في مخيّمات الاعتصام الطلابية، نشهد تداخل هذين العالمين، ومع ظهور تقنيات المراقبة الجديدة، والذكاء الاصطناعي، والهندسة الوراثية البيولوجية، يتساءل المرء عمّا إذا كان هذا التداخل هو شرط انتقال المجتمع الغربي من ديستوبيا الاستبداد الأورويلية إلى ديستوبيا الرفاهية.
على الرغم من أننا ربما لم نشهد على وحشية الشرطة في حرم جامعة تورونتو بشكل مباشر، كان واضحًا خوف الطلاب من المراقبة والتسلّل إلى مخيّمهم. لم يُسمح لأي شخص غير منتسب إلى الجامعة بالدخول إلى المخيّم، وعلى الرغم من أن المعتصمين كانوا يقبلون بدايةً تلقّي التبرعات على شكل طعام أو مشروبات، عادوا ورفضوا الكعك والمياه لأسباب تتعلق بالسلامة، عندما وصلنا إلى هناك. وغطّى معظم الطلاب داخل الأسوار رؤوسهم ووجوههم بالكوفية، بالطريقة التقليدية التي لا تكشف إلا عن العينين، وهو ما يذكرنا بالطريقة التي يعتمدها الفدائيون الفلسطينيون. تجمّع متظاهرو مسيرة عيد العمال وتجمع حركة الشباب الفلسطيني حول الأرض المسيّجة في كينغز كوليدج سيركل، حاملين أعلامًا وملصقات كتب عليها "أوقفوا الإبادة الجماعية" و"تحيا المقاومة المسلحة الشرعية للاحتلال"، إلى جانب لافتة تحذير صغيرة مكتوب عليها "ممنوع الخيام"، جاثمة كلها في حالة بائسة على العشب في خلفية المخيّم الطلّابي.
في 1999، كتب فيليب ألتباخ أن "طلاب الجامعات هم من بين المجموعات القليلة في المجتمع التي تمتلك المعرفة والحرّية للقيام بالنشاط السياسي". ومع نمو أقسام العلوم الإنسانية وبرامج العلوم السياسية في الجامعات في جميع أنحاء العالم، والطفرة في إنتاج النظرية السياسية النقدية التي تدرس الأنظمة القمعية في الماضي، يُستغرب أن المؤسسات لا تزال تتوقع من طلابها أن يغضّوا الطرف عن سيل الأحداث الحقيقية التي تتكشّف أمام أعينهم اليوم. ندرُس نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، والتكتيكات الدعائية المستخدمة ضد نيلسون مانديلا لعرقلة حركة التحرر الوطني والتحرر من اللاعدالة العنصرية، وفي نفس الوقت لا ُيتوقع منّا أن نتبع خطاه عندما نرى نفس أساليب القمع تُستخدم بعد 30 عامًا. ندرُس كيف استخدم النازيون المجاعة والمرض كسلاح ضد اليهود، وفي نفس الوقت يتم ثنينا عن المقارنة بين ذلك وبين المجاعة التي تصنعها إسرائيل في غزة. ويذهب المشرّعون الأميركيون، بناءً على طلب من جماعات الضغط الأميركية الإسرائيلية، ليس إلى الثني عن مثل تلك المقارنات فحسب، بل أيضًا إلى حظرها تحت ستار "حماية الشعب اليهودي" و"محاربة معاداة السامية".
في نهاية المطاف، يُطلب من الطلاب التخلص من جميع أشكال التفكير النقدي، وفي الوقت نفسه يتم تصنيفهم وتقييمهم كأعضاء مدنيين في المجتمع بناءً على قدرتهم على التفكير النقدي. وبينما نشاهد الأطفال وهم يتطايرون أشلاء بسبب جريمة أنهم ولدوا فلسطينيين، يقال لنا في الوقت نفسه أنه لا يوجد دليل على أن إسرائيل ترتكب إبادة جماعية. نحن نتعرض للقصف بحملات "أعيدوهم إلى الوطن"، بينما نشاهد في الوقت نفسه نتنياهو يرفض الصفقة تلو الأخرى مع تجاهل تام لحياة الأسرى. لقد أصبحت اللغة ملوّثة حتّى فَرغَ الخطاب العام من المعنى. وهذا التلوّث مع فساد اللغة ما دفع الطلاب، الذين تتمثل مهمتهم في استخدام اللغة بأفضل طريقة للنجاح في مجالات تخصصهم، إلى الحافة.
إن الأداة الرئيسية للتنظيم في أي دولة ديمقراطية ليست العنف، بل التعبير. إن ما يصنع الديمقراطية ويدعم سيادة القانون هو نوعية الخطاب. وبمجرد انهيار نزاهة اللغة، بحيث يستطيع أي شخص في السلطة أن يكذب كذبة تلو الأخرى بشفافية كاملة، من دون التعرّض لأي عواقب، تتعرّض جودة الكلام للخطر، ولا شيء يعني أيّ شيء، ولا يبقى أمامنا سوى اللجوء إلى العنف. واليوم، يقف الطلاب في قلب هذا الفشل في الديمقراطية، مُتَحَدّينَ كل ما هو متمدّن في المجتمع الغربي من خلال رفض الخضوع للفساد اللغوي للواقع، كاشفين عن مدى سطحية الالتزام بالحرية والتمدّن في الولايات المتحدة.
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة