اليوم استيقظت بجهد، ولم يكن ذلك مختلفاً عن أيّ من الأيّام الماضية. رتّبت سريري بجهد، نظّفت ركوة القهوة المتروكة من يوم أمس وأعددت قهوتي بجهد أيضاً. يقولون أنّ ترتيب السّرير يوميّاً هو علامة على حبّ النّفس. يا إلهي.. كيف يكون ذلك حبّاً وأنا أقوم به بجهد إذا ؟!
أعتقد أنّني رويداً رويداً بتّ أدمن هذا الجّهد. أشكر اللّه على أنّني لا أدمن أشياء أخرى كالدّخان والكحول والمخدرات، لكنّني بالمقابل أجهد نفسي بالتفكير بأشياء عبثيّة كالأحلام والسّفر والعلاقات الإنسانيّة وأستمتع بذلك. إنّ جهداً كهذا لا ينتج شيئا غير الكسل، غير فكرة أنّني أريد أن أنهض من أجل أن أنام، وأن أنام لأجل أن أعاود النّوم من جديد.
في ذلك اليوم، كانت الشّركة قد عاودت فتح أبوابها بعد مرور العاصفة. كان البرد جهداً آخر يومها، جهدٌ لا أستطيع تفسيره، بيد أنّني كنت لا اتحمّس للقيام من السّرير إلّا بإذعان منه، كأنّه كان سبباً حقيقيّا لشقاء الإنسان، وليس فكرة واهية تتراءى لك كالأخريات.
هذه الأمور جميعها هي عادات سيّئة بالتّأكيد، عادات لا تفضي إلى شيء، وليس هناك منها أيّ جدوى، هي فقط تمرينات على القسوة. يجب أن تقنع نفسك ببعض الأمور في النّهاية، وليس مطلوب منك أنّ تفهم فحواها، صدّقني، إنّ الجهل أفضل في هذه الحالة.
المهم، أين أصبحنا. نعم لقد هجرتنا العاصفة بعد مضيّ أسبوعين، لكن لا أعرف إنّ كنت أودّ الخروج من بيتي، ولا أعرف أيضا إنّ كان باستطاعتي معاودة الإستيقاظ في السّابعة صباحاً. لقد بنيت طقوساً في الأسبوعين الماضيين، طقوساً لا يتخلّلها بشر غيري، لكن الآن عليّ أن أرتدي ثياباً سميكة، ليس هذا وحسب، بل ثياباً لبقة أيضا، لكي أصافح أشخاصاً لبقين، ولكي نتكلّم سويّة بطريقة لبقة. لا أفهم كيف يستطيع النّاس فعل ذلك، لا أستطيع فهم نفسي خصوصاً.. كيف أقدر على فعل ذلك؟ ولماذا؟.
أعتقد أن السّؤال الأهم هنا، هو "لماذا يقوم أيّ شخص بأيّ شيء؟!".
ارتديت البذّة التي تحمل شعار الشّركة. عدت إلى كوني واحداً من موظّفيها الآن. خلعت عنّي أسبوعين من الإجازة المدفوعة، أسبوعين كنت أتصرّف بهما على سجيّتي، أرتدي ما أحبّ وألتهم ما أريد. عدت لكوني محصّل قروض، يعمل بمحاذاة واحدة من تلك النّوافذ العملاقة التي تكشف لك مداخل الشّركة كلّها.
تمكّنك النّافذة من رؤية الموظّفين الذين يدخلون ويخرجون كل بضع دقائق، إنّهم جميعا يرتدون البذّة نفسها. يمكنك أن ترى مواطنين عاديّين أيضا، يدخلون ويخرجون، لكنّهم لم يكونوا كثراً. حيث أنّ أحداً لم يعد يدفع ديونه هذه الأيّام. أغلب يومي في العمل يكون عبارة عن إمّا الجلوس ومشاهدة شاشة الإعلانات الضّخمة التي تقع في الشّارع المحاذي لشركتنا، وامّا الإستماع إلى شكاوى النّاس العاجزين عن دفع ديونهم المتوجب عليهم تسديدها للشّركة.
أفعل ذلك غالبا بينما أشرب القهوة، لكنّ بعد عودتي إلى العمل وأنا أشعر أنّه ثمّة شيء مختلف في هذه القهوة، إنّها ليست القهوة نفسها التي كنت أشربها في البيت عندما كنت أملك الوقت لإعدادها بنفسي. هنا يعدّون القهوة بماكينة، لا يفعلون شيئا سوى أنّهم يضعون فيها عملة نقود ورقيّة ومن ثمّ يضغطون على الزر المطلوب. كم أنّه سهلٌ هذا الأمر، كم أنّ جميع الأمور سهلة هنا داخل الشّركة، ومستحيلة خارجها.
بينما كنت انظر إلى الشّارع منتظراً أن يدخل باب الشّركة أيّ مواطنٍ تعيس، لكيّ أشطب إسمه من على لوائح القروض، رأيت إعلان ماكينة قهوة جديد يعرض على شاشة الإعلانات الضّخمة تحمل شعار شركتنا.
"قهوة دافئة ورخيصة" هو شعار الإعلان.
بعدها بدقائق معدودة، ضجّ المكتب بصوت رنين الهواتف، ليس في مكتبنا فحسب، بل كان الوضع أشبه بحالة إستنفارٍ في خطوط اتّصالات الشّركة كلّها. اتّضح أنّ إعلان ماكينة القهوة كان ناجحا بشكل خيالي إلى الحد الذي جعل السكّان يتّصلون على رقم الشّركة فور انتهائه.
منذ ذلك اليوم والنّاس يشربون القهوة نفسها، أينما ذهبتَ خارج الشّركة أو داخلها، يمكنك رؤية أشخاص يحملون فناجين القهوة الخاصة بهم أينما ذهبوا. تخيّلوا أنّ حتّى حمّام الشّركة بات مكتظّا بالموظّفين الذين يشربون القهوة الدّافئة والرّخيصة بعد أن وضعوا ماكينة للقهوة هناك.
تذكّرت ذلك اليوم الذي انتهت فيه العاصفة، عندما اضطررت إلى التخلّي عن الجهد الذي كنت قد أدمنت عليه آنذاك. كانت العاصفة حدثاً جيّداً في الحقيقة. إنّ البرد الذي كان يتسلّل إلى عظامي حينها دفعني للقيام بأشياء عديدة، بيد أنّه كان أقسى من أيّة فكرة، وأشدّ من أيّ توبيخ يتعرّض له موظّف من رؤسائه في العمل. كان برداً يجعلك تتحمّل أيّ أمر وأيّة إهانة، إنّه ذلك البرد الذي جعلني أدمن جميع الأشياء المجهدة ، بيد أنّني كنت أبحث فيها عمّا يحرّك فيّ ما هو أشدّ منّ الإحساس بالبرد، الّا أنّني لم أجد ما يضاهيه. صرت بعدها أستمع لشكاوى المواطنين الغارقين في ديونهم ودموعهم والمحتاجين من غير أيّ ذرّة تعاطف، وقد تحوّلوا بالنّسبة لي إلى مجرّد أسماء زائدة على لائحة الشّطب.
بعد مضيّ العاصفة، البرد لم يتوقّف، فتحت الشّركة أبوابها للموظّفين والمحتاجين. لم يعدّ أحدٌ يعدّ قهوته بنفسه، حتى بعد أن لاحظ السكّان أنّ القهوة التي تعدّها الماكينة لم تعد لذيذة كما من قبل. مذاق القهوة هو نفسه، تعدّه الماكينة للجميع، إنّه أمر يشبه البذّة التي يرتديها جميع الموظّفين هنا.
بالرّغم من ذلك، لم يتوقّف أحدٌ عن شراء القهوة من تلك الماكينة، لأنّه غاب عنهم مذاق أيّة قهوة أخرى، بل غاب عنهم معنى أنّ يعدّ الإنسان قهوته بنفسه، أو بكلمات أخرى، غاب عنهم أنّ المذاق يكمن في ذلك الجهد الذي سرقته الماكينة منهم.
مجدّدا أسأل نفسي ذلك السؤال: لماذا يقوم أيّ شخص بفعل أيّ شيء؟!
الصورة: من فيلم "قهوة وسجائر"
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة