في عالم يسوده الهدوء، يضبط فيه الأفراد ساعات نومهم بانتظام، ويستيقظون فيه إلى ساعات عمل محدّدة، عالمٌ مليءٌ بالموظّفين الدقيقين، الذين لا يشتهون شيئا غير الوظيفة والنوم، في عالم كهذا، وفي إحدى ليالي طقس بارد، بدأت معاناة هؤلاء مع شحّ في الوظائف، وأصبح على المطرودين من وظائفهم أن يتأقلموا مع هذا الواقع الجديد. نتيجة لذلك اكتظّت المقاهي اللّيليّة بمن صُرفوا من وظائفهم.
أعدادٌ مهولة من الأفراد، وساعاتٌ مهدورة فوق منضدات البار. لم يعد هناك حياةٌ هادئة بالكامل، بل أصبح بعض هؤلاء مضطّربين بشكل كامل، لا يعرفون كيف يتوجّب عليهم تصريف هذا الوقت الفارغ كلّه. بعضهم بحث عن أدنى الوظائف أجرًا، لأنّه لم يعد للمال أيّة أهمّية، أيّ ليس بقدر أهمّيّة الوقت الوظيفي، وبعضهم قاده إضطّرابه إلى قتل نفسه. كانوا ينتحرون بأعدادٍ هائلة يوميّا، لم ينجُ منهم سوى الذين تحصّنوا بوظائفهم، الكبار الشأن، الذين باتوا مجتمعًا واحدًا، مجتمعًا ضد العاطلين، المطرودين تعسّفًا، الذين فقدوا الإحساس بالوقت، الذين حياتهم الآن هي ليست سوى محض سخرية، وليس لها أيّة أهمّيّة تذكر كأنهم غير موجودين إطلاقًا.
عرجتُ الى المقهى اللّيلي الذي يعجّ بالمطرودين أمثالي، بات هذا الفعل روتينيّا عندي. أسلّم على داني وأسأله إن وجد وظيفة ما، يهزأ ويخبرني أنّه لو وجد وظيفة ما كنت لأرى صورة وجهه في هذا المكان. معك حقٌّ يا داني، أردّ. أحصي عدد الوافدين الجدد، وأجد أنّهم أكثر من الغائبين. إنّها القاعدة هنا، عندما يطول غيابك عن هذا المقهى، فذلك يعني إمّا أنّك قد متّ وإمّا أنّك قد وجدتّ وظيفة. كان داني يمرح مع أصدقائه، فتركتني وحدي جالسا على البار. الساقي شابٌ عشرينيٌّ ضعيف النظر، وُلد بعيب خلقي في شبكيّتيّ عينينه، ما جعل رؤيته غير مكتملة، وذلك يعني أنّه لا يرى إلّا نصف رؤية. فإذا ما كنتَ جالسًا مقابله، سيضطرّ إلى النظر الى يمينه أو يساره حتّى يتمكّن من رؤيتك. أشرت له إلى الويسكي، لكنّها كانت في الإتجاه المعاكس لمجال رؤيته، فلم ينتبه، أحسست كم أنّني غبيّ، لكنه بات يعلم أنّني الرجل الذي يطلب الويسكي، حتّى أنّه صار يلقّبني بذلك اللّقب: رجل الويسكي. أنت نصف أعمى أليس كذلك؟ سألته. تقريبا، قال. قل لي إذا، ماذا ترى عندما تنظر أمامك مباشرة؟. لا شيء، لا أرى شيئا إطلاقا. وعندما تنظر إليّ مباشرة، هل أكون بلا وجه؟. قال نعم. أنت تراني على حقيقتي إذن. صَبّ لي كأس الويسكي. أخبرته لا أريد ثلجا هذه المرّة.
أشرب الكأس بينما أراقب الشاب وهو يمارس وظيفته. يمسح الكؤوس ويملؤها. يبتسم للزبائن. يرمي زجاجات فارغة، يفتح أخرى جديدة ويدخّن سيجارة. أفكّر أنّه لكيّ تعمل، عليك أن ترسم إبتسامة على وجهك، إبتسامة لدوام كامل، وأنا في الحقيقة لا أستطيع فعل ذلك. لا أحد يودّ توظيف شخص مثلي، يسير على حافّة حياته. عليك أن تضحك في وجه الزبائن إذا ما أردتّ العمل في مقهى، لا يمكنك أن تعبس بينما تقدّم الويسكي لفلان، سيظنّك تسخر منه، وحينها لن يأخذ كأس الويسكي على محمل الجدّ، وستكون الويسكي مجرّد ويسكي، وليس شيئا مهمّا يحتاجه المرء لكيّ يحيا. هذا الشاب يمتلك وظيفة بدوام ليليّ ونصف رؤية، أيّ أنّه أشبه بالملك الأعور ونحن حاشيته.
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة