"استيقظت هذا الصباح وقد وجدت أن العقارب في ساعة الحائط قد اختفت. ظننت أنه شيء حدث معي وحدي، لكن سرعان ما تفقدت منازل أصدقائي والمطاعم المفضلة لدي والبارات وصالات الانتظار: المطار وقاعة السينما، وأهمها تلك الساعة الضخمة في وسط المدينة. لم يعد يمر الوقت هنا أبدا، كأن عقرب الزمن مات لكثرة ما لدغ نفسه".
وجدنا تلك الرسالة متروكة على مكتب أحد موظّفي الشركة الذي أقدم صبيحة العام الجديد، على رمي نفسه من النّافذة المحاذية لمكتبه. قرأت وزملاؤه تلك الرّسالة مرارا وتكرارا ولم نفهم قصّة العقارب تلك، بيد أنّ ساعة الحائط الموجودة في المكتب كانت تعمل بشكل طبيعيّ.
كنت كلّما اقتربت بشدّة من إحدى نوافذ المكتب، تراءى لي أنّهم شيّدوا المبنى بهذا الإرتفاع لأجل أن يدفعونا إلى التفكير أكثر في الإنتحار.
انّها ليست المرّة الأولى التي يقدم فيها أحد الموظّفين على الإنتحار، بل صار ذلك جزءاً من الفولكلور السنويّ. قلّة من يصلون إلى العام الجديد أحياء، بيد أنّ الشركة، في كلّ عام، تستهلِك عدداً هائلاً من الموظّفين، وتستبدلهم سريعاً في اليوم التّالي بموظّفين جدد.
رسالة ذلك الموظّف كانت مريبة للغاية، فمنذ أن بدأتُ العمل هنا، أيّ منذ ما يقارب العشر سنوات، لم أقرأ ما هو أغرب من تلك الرّسالة، علماً أنّ درج مكتبي، كسائر دروج المكاتب في الشركة، يحوي آلاف الرسائل التي تركها موظّفون قبلي، لكنّي وللأسف لم أملك الوقت لقراءتها كلها. فأغلب الرسائل التي قرأتها كانت عبارة عن أعذار سخيفة، مثل ذلك الموظّف الذي وجّه اعتذاراً للموظّف الذي خلفه، قائلاً إنه ترك له الكثير من الأوراق غير المنجزة. لكنّ واحدة من تلك الرسائل التي وجدتُها في دُرجي كانت تضاهي رسالة اليوم غرابة:
"عندما سأموت، لا أعرف إن كنت سأذهب إلى الجنّة أم الى الجحيم، لكنّ أفضّل الموت الحتميّ على الموت اليوميّ."
أحتفظ بتلك الرسالة في محفظتي، وأعود إليها كثيرا كلّما أمعنت النّظر إلى النّافذة، وهو ما جعلني أفكّر مليّا بالرّسالة التي سأتركها للموظّف الذي سيحتلّ مكتبي من بعدي. أن تحتفظ برسالة انتحار شخص آخر، أو أن يهمّك الإحتفاظ بها على الأقلّ، فذلك يعني أنّ السبب الذي يدفعك للبقاء على قيد الحياة يختلف عن أسباب الآخرين.
توجّهتُ إلى كافيتيريا الشّركة لشرب القّهوة، وقد قرّرت أنّني في هذا اليوم سوف أتجنّب جميع الموظّفين. ولم أعد أميّز الموظّفين الجدد عن القدامى، وأكره كثيراً ذلك الاندفاع الذي يتملّك الموظفين الجدد، لقد مكثت هنا أكثر منهم جميعا، وهذا هو الفرق بيني وبينهم. ثمّة من مكث هنا أكثر بكثير من البقيّة وعندما أنظر إلى المتأخرين في الوصول، أشعر بأنّني أنا أيضا تأخّرت، لكن في البقاء.
وفيما كنت أطلب فنجان القهوة من عاملة الكافيتيريا، رأيت موظّفاً من بعيد نجحت في تفاديه لسنوات، إنّه من النّوع الذي يسأل كثيراً عن أشياء لا معنى لها، ليس ذلك وحسب، فهو دائما ما يلقي التحية عليّ بحرارة، ولا أفهم حقّا من أين تأتيه تلك البهجة الصبيانيّة.
كنت أحتاج إلى فنجان القهوة ذلك بشدّة، لكنّي لو انتظرتُ أن تنتهي العاملة من تحضيره لكنت وقعتُ في قبضة ذلك الرّجل. ولذا، طلبت زجاجة بيرة وخرجت بها إلى الشّرفة. وجلست وحيداً أحاول نسيان أمر ذلك الموظّف البهيج. لديّ حاجة ملحّة إلى أن أظلّ هنا على هذا المقعد اليوم، لا أفعل شيئاً سوى مراقبة النوافذ والمطر والغيوم الملبّدة وأضواء الطّائرات التي تقلع من المدرّج المقابل لمبنى الشّركة. أشعر الآن ببرد السّابعة صباحاً. المراقبة هي الشّيء الوحيد الذي أفلح في مزاولته طوال النّهار. ولست مستعداً للمساومة على وجودي هنا على هذا النّحو. ورغم أن الجميع مواظبون على العمل في هذه الأثناء، لم أستطع التوقّف عن التفكير في أهمية أن يترك المرء رسالة انتحار خلفه، والّا ما الذي يبرّر حماقة أنّ يعيش منبوذاً في حياته ومجهولاً في مماته على حد سواء.
سمعت أحداً يطرق على باب الشّرفة، التفتّ فإذ به ذلك الموظّف اللّعين، يلوّح بيديه الاثنتين ويلوّث الزجاج بضباب أنفاسه. رفعت يدي وسلّمت عليه آملا أن ينتهي الأمر عند ذلك الحدّ لكنه فتح الباب واقترب منّي قائلا: ماذا تفعل هنا وحدك في هذا البرد يا رجل؟ قالها مع ابتسامة عريضة تملأ وجهه النحيل. أخذت رشفة من زجاجة البيرة وقلت أوّل فكرة خطرت في بالي.
هل توقفتَ لبرهة بينما تنفّذ عملاً ما، وأخذتَ نفساً عميقاً وفكّرتَ... كيف انتهى بك المطاف إلى أن تفعل ما تفعله؟
عبثاً تمنّيتُ لو تنطفئ تلك البهجة اللّعينة في وجهه ويرحل، لكنه طلب منّي أن أنهض كأنّه لم يسمع أيّ كلمة قلتها، أخبرته أنّني سأفعل ذلك ولكن ليس قبل أن أنهي شرب البيرة. حينها، قرّر أن يجلس إلى جانبي وراح يطرح تلك الأسئلة السّخيفة عن أحوال الشّركة، يسمّي الموظّفين الجدد بأسمائهم وراح يؤشّر عليهم واحداً تلو الآخر: هذا جديد... هذا أيضا جديد... أنظر هناك هؤلاء جميعهم جدد.
كان يتكلّم بينما كنت أفكّر في كم أنّني خسرت ذاتي اليوم في عدّة مواقف: عندما دخلت إلى كافيتيريا الشّركة، وعندما التقيت شخصا كنت أتجنّب رؤيته طوال حياتي، وكيف فرض نفسه عليّ ولم أستطع الفرار منه. لم أنجز المهام الموكلة إليّ، كما أنّني شربت البيرة بدلا من القهوة. يا الهي، لقد كنت غائباً كليّاً في كل تلك المواقف، والآن أخذ ضميري يؤنّبني بشدّة.
قبل أنّ يهمّ في الرّحيل، أخبرني أنّ يوم الكرنفال بات قريباً جدّاً وأنّه متحمّس جدّا لخوض مباراة الغولف السنويّة في النّادي التّابع لشركتنا. أخبرته أنّني لا أكترث لأمر ذلك اليوم أبداً.
لابدّ أنّك الشّخص الوحيد الذي يفضّل العمل على الاستمتاع بيوم العطلة الوحيد في السنة. ستكون الحريّة جحيماً إذا كانت مفروضة عليك، ولهذا أنا لا أريدها. حينها، شعرت أنّ ابتسامته التي تعلو وجهه ضاقت بعض الشّيء ثمّ ودّعني ورحل.
يوماً ما، عندما أصل إلى سنّ التّقاعد، سيكون عليّ اختيار رياضة ما لكي أمارسها في شيخوختي. أعتقد أنّ تلك الرياضة ستكون لعبة الغولف التي يحبّها جميع الموظّفين هنا. حينها سأختار بلداً ما، فيه مرجٌ واسع وعشب أخضر، سأحفر حفرة فيه بكلتا يداي، ومن ثمّ سأظلّ أضرب الكرات واتأمّل ما بقي من عمري، غير آبه بحياة كاملة مضت بالقرب من نافذة. لكنّي الآن، وبينما أراقب الطّائرة الثانية - أو ربما الثالثة ما عدتُ أعرف - التي تقلع، سأظلّ أفكّر بالطّريقة المناسبة التي ينبغي على موظّف بسيط مثلي أن يودّع بها العالم.
الّا أنّني ولسخرية القدر، بتّ أفكر بفحوى تلك الرّسالة أكثر بكثير من الموت نفسه. إنّني في واقع الأمر، أرغب بأشياء ذات قيمة قبل أن أموت، مثل حلمي ذاك بالوصول إلى الشّيخوخة مثلا. ليس ذلك وحسب، إنّي أهرب من الحياة من خلال الحلم، لا أعرف إنّ كان ثمّة طريقة أخرى للفرار، الحلم بالفرار هو صديقي الوحيد، لكن ما الذي يمنعني من أن أخرج الآن من باب الشّركة، أشتري تذكرة سفر إلى بلد بعيد وأسافر في إحدى تلك الطّائرات المستعدّة للإقلاع؟ ما الذي يمنعني من التفكير في إنشاء عائلة في بلاد أكبر هموم مواطنيها هو الإستيقاظ في السّابعة صباحا لكي أرمي الثّلج المكوّم أمام باب منزلي من أجل أن تزيله جرّافات البلديّة في طريقها. لديّ هموم يوميّة هائلة هنا، الغلاء والأجر الضّئيل، وتجنّب البشر هنا قدْر المستطاع، بيد أنّي تعلّمت من اليوم الأوّل أنّي لا أستطيع أن أبني صداقة مع أحد، لأنّ الأشخاص هنا سيخذلونك بلا أدنى شكّ. وفي الحقيقة كلّما يمضي بي الوقت هنا أكثر، أكتشف أنّ من رحل كان محقّاً برحيله، وأن الذين انتحروا أيضا كانوا محقّين، لكنّي أنا وكلّ الذين قرّروا البقاء كنّا وحدنا المغفّلين.
الآن فقط فهمت ماذا جرى لعقارب السّاعة، كما أنّني لاحظت حينها أنّها إختفت عن ساعة الحائط نهائيّا، ظننت بأنّني أتخيّل ذلك، لكنّ لحسن الحظ، أني أختلف عن ذلك الموظّف الذي كان يشعر بأنّ الوقت ذو قيمة بالغة في حياته، امّا أنا فغدوتُ سعيداً جدّا بهذا الوهم، ولا أريد لهذه اللّحظة أن تمضي أبدا.
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة