عندما تواجهنا مشكلةٌ ما فإنّنا في سبيل حلّها مرةً وإلى الأبد نعمد إلى البحث عن أصلها وفهم أسبابها وتوقع تبعاتها. وهذا ما يفلتُ من أيدينا عندما نتحدّث عن الذّكاء الاصطناعي وهواجسنا العديدة المتعلّقة بتطوّره واقحامه في مختلف جوانب حياتنا.
تثيرنا الفرص اللامتناهية التي ستوفرها لنا تلك التكنولوجيا المعقدة والمتاحة أمام كل من يمتلك شاشة حاسوب. ترهبنا بقدرتها المتعاظمة يومًا بعد يوم، بسلاسة دخولها إلى تفاصيل حياتنا وصعوبة انتزاعها منها. من يستخدم من؟ ومن يتغذّى على دماغ من؟ كيف نستجيب لتلك المادة التي تنصهر مع عقولنا فتمدّها بقوةٍ نخترق الزمان بها ونقفز معها بخطواتٍ كبيرة عمّا كان يستهلك وقتنا، وتسلب منّا محيطنا الماديّ وهدوء يقيننا بمعرفة عالمنا، وترمينا بمجهول متغيّرعلى الدوام لا نعلم معه إلى أي مكانة سينتهي بنا المطاف.
لا شكّ أنّنا في عصرٍ مسخٍ لم يستكمل تحوّله بعد، وأنّ لجهلنا علاقة كبيرة بخوفنا كما بتفاؤلنا، لكنّنا ومن خلال تجارب البشرية السابقة في التحولات الجذرية للعالم نستطيع أن نتوقّع شكل الأشياء التي ستصحب الذكاء الإصطناعي، أو كما يفضّل جارون لانيير1 تسميته بشكلٍ يخفّف من صورته المضخّمة في رؤوسنا "تطوّر الخوارزميات"، كأن يغيّر شكل وظائف عديدة، فيستبدل كثيرًا منها ويخلق حاجة لإتقان مهماتٍ جديدة، تمامًا كما فعلت وسائل التواصل الإجتماعي، التي شكّلت أوّل تماسٍ مباشر بين الذكاء الإصطناعي والبشر. وإنّنا إذ نستعرض ماذا حصل وكيف تغيّرت سلوكياتنا بعدها فلا نزال نخوض في التّبعات ولمّا نصل إلى أصل المشكلة بعد.
بُهر الناس بفجر البشرية الجديد الذي انشقّ مع ظهور مواقع التواصل تلك والذي منح كل فردٍ صوتًا ومساحةً للتأثير في المجتمع، وإن كان هذا صحيحًا فله جانبٌ مظلمٌ لا يجب إغفاله. فعلى عكس أورسولا التي أعطت آرييل قدمين وأخذت في المقابل صوتها، أعطتنا هذه الوسائل صوتًا في مقابل أن تتحكّم بأقدامنا والأفظع أن تتحكّم بصدى أصواتنا تلك.
لقد غيّرت خوارزميات وسائل التواصل الاجتماعي شكل علاقاتنا الإجتماعية، أصبحنا أكثر انتقاءًا لنوع الناس الذي نريده في محيطنا، الحقيقي والإفتراضي، وشكل الصحافة وتبادل الأخبار وتلقّينا المعلومات. ولم يعد ذلك حكرّا على من يملك كبرى شركات الإعلام ووسائل الإنتاج، بل أصبح لكلّ منبره سواء أثبت مصداقيته أم راح ينشر الأخبار المزيّفة والمعلومات المضلِّلة، في مقابل إتاحة موسوعات ضخمة ومصادر معلومات متنوّعة لمن أراد ذلك. وبه تطوّر شكل الربح المادي وريادة الأعمال وقد أضحى من الضروري لكلّ شركة صغيرة كانت أم كبيرة أو أي شخصٍ حتى ولو ملك بسطة فول أن يكون له وجهٌ إلكتروني لكي ينجح في عمله ويصل إلى أكبر عدد من الزبائن…
في معظم الأحوال، لم نعد نقرر ما نريد أن نراه في يومنا، يكفي أن نفتح أي منصة حتى تُعرض علينا خيارات محدودة، نسبة إلى ما هو متاح حقًّا. ويقول جارون أنّنا أردنا أن نحصل على أشياء كثيرة بالمجان، كالمعلومات والموسيقى والعلاقات الاجتماعية…، فأصبحنا نحن المنتَج، وبتعبير أدقّ "إنّه التغيير التدريجي الطفيف غير المحسوس في سلوكنا وإدراكنا، هذا هو المنتج"2، حيث تُؤخذ بياناتنا وتُباع إلى شركات تستخدمها في تحسين منتجاتها والترويج لها بشكلٍ أفضل وبالتالي لتحقيق ربحٍ ماديٍّ أعلى. فغدونا نُباع ونُشترى في أسواق البيانات التي هي أسواق نخاسة فيما نحن عبيد الإنترنت. وفي سبيل أن تدوم هذه الأسواق وتزدهر التجارة فيها، أخذوا يبحثون في وعينا ولاوعينا، عمّا نريده من دون علمنا، في أكثر حاجات الإنسان فطرية وبدائيةً. ويكفي أن نمرّر أصابعنا على شاشات هواتفنا بدفع من حاجات غرائزية أساسية في نهمٍ دائم لإشباعها: من الحاجة إلى الإنتماء إلى المجتمع، إلى الإحساس بالأمان ضمن الجماعة، إلى الشعور بالحب، مرورًا بالتقبّل، إلى المشاركة في عملية صنع القرارات وبناء المجتمع، إلى نيل الإحترام والتقدير والعرفان، ووصولًا إلى الحصول على مقدارٍ من قوّةٍ ومن حريّة حتّى ولو كانتا مزيّفتين!
كلّ ما سردناه وغيره تبعاتٌ لا مفرّ منها لم تكن لتشكّل مصدر قلق كبير لو أنّنا نثق بأن من يستعملها أمين على تطوّر البشرية ومحبّ لنشر الخير والعدل والأمان… لكنّ هذه المصطلحات لا وجود لها في قواميس التحكم والسيطرة والسطوة والنِيورأسمالية ومتحوّلاتها. أن نتحوّل إلى زومبي عدائيين وعاطفيين، وأن نتحرّك تحت تأثير مخدرات الشاشات المضيئة كل الوقت، وأن نتصرّف وفق ما ترسمه لنا الخوارزميات الموجّهة بعيدًا عن مصالحنا وهمومنا الأساسية، وأن نتكاسل في اقتلاع جذور مشكلاتنا الشخصية فنُرجئُها إلى ما بعد فيديو مضحك آخر ومحادثةٍ لطيفة أخرى، وأن نمدّ في عمر تعاستنا ونفاقم أمراضنا النفسية سوءًا، كلها أمور لا قيمة لها في عالم تحكمه تكنولوجيا نخبة النخبة. هل كانوا يقلقون على كرامة العبيد ونفسياتهم عندما كانوا يدكّونهم في السُّفن؟ حسنًا ربّما عدنا إلى التهويل مجدّدًا، ولكن "يا للهول" كيف نتصرّف؟!
يجيب جارون لانير عن سؤال3 ما "إذا كان الذكاء الاصطناعي سيفوق ذكاء الإنسان وسيحكم العالم"، بأن هذا سؤالٌ غيرُ منطقي ولا معنى له! وأنّ هكذا أسئلة نجدها في أفلام الخيال العلمي مثل The Matrix و Terminator لا أكثر. ويساعدُنا جارون على فهم المأزق الذي نغرق في وحله كل يوم أكثر، بل قل كل ثانية أكثر، فيحوّل خوفنا من أن تحكمنا التكنولوجيا إلى قلقٍ من أن تصيّرنا مجانين. وفي فهم شكل قلقنا ذاك ومصدره أهميّة كبيرة لفك شيفرة دافنتشي.
لا يزال العالم في تطوّر دائم وكما يتطوّر يتبدّل معه مفهومنا لأنفسنا ولحقوقنا وحدودها، فعلى سبيل المثال لم يكن مصطلح "الحق في الخصوصية" يعني شيئًا قبل اختراع الكاميرا وانتشارها في كل مكان. وفي نفس السياق، نكتشف اليوم أن لنا بيانات خاصة علينا أن نطالب بحقنا في حصرية الاطّلاع عليها وإذا ما قبلنا مشاركتها فيكون ذلك لقاء بدلٍ ماديّ. هذا ما أطلق عليه جارون مصطلح "كرامة البيانات" "data dignity"، وهو ما يمكن أن يشكّل مع قوانين اقتصادية واجتماعية مستحدثة حجر الأساس لعالمٍ تكون فيه تكنولوجيا الخوارزميات أداة بناء وحرية لا هدمٍ وقمع.
مع كل تكنولوجيا جديدة نخترعها ينكشف غطاء من المسؤوليات، في إحترامها أو إهمالها يكمن لبّ المشكلة. فلربما علينا أن نتحمّل مسؤولية استخدام هذه التكنولوجيا بوعي ويقظة، في النهاية ما هي إلا أدوات إما أن نستثمرها لصالحنا وإلّا ضيّعنا علينا بضع قرونٍ أخرى قبل أن نُسيّر البشرية على الصراط المستقيم. بيد أن كل داء يأتي بدوائه، ولمّا كان الإنسان أصل مشكلته هذه، في صراعه السرمدي بين خيره وشرّه، بتضييق حلقته الإنسانية حتّى يُجرّد كل من يكون خارجها من حقوقه الطبيعية، وبأن يحقّ لفردٍ ما لا يحق لغيره… فإنّ فيه القدرة على ضبط مسار التطوّر هذا إذا ما أراد ذلك حقًّا. ولديه شرف محاولة انتزاع حقوقه من براثن كبرى الشركات المتعطشة لاكتشاف قدرات الذكاء الاصطناعي اللامحدودة والتي من أجل الفوز بأسبقية اكتشاف آخر ما أتقنه هذا الذكاء قد أشعلت شرارة سباقٍ لا يبدو أنّه سينتهي قريبًا.
____________________
1 جارون لانيير، عالم حاسوب، وملحن، ومبرمج، وكاتب، وأستاذ جامعي، وباحث في مجال الذكاء الاصطناعي، ورجل أعمال، وفيلسوف، وعازف بيانو، وفنان تشكيلي
2 Jaron Lanier, The social dilemma
3 https://www.theguardian.com/technology/2023/mar/23/tech-guru-jaron-lanier-the-danger-isnt-that-ai-destroys-us-its-that-it-drives-us-insane
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة