"أي شيء يقتتل مع أي شيء؟ العلم يقتتل مع "الفكر".. هذا الحافي الجائع، الذي قدِّر له أن يبقى فقيرًا، عريانًا، مريضًا، لكنّه في الوقت نفسه تسلّح بسلاح واحد هو "الإيمان" و"العقيدة"، واستطاع بنباهته التغلب على ذاك الذي جمع القدرات العلمية والصناعية والفلسفية البشرية. إذًا هناك شيء آخر غير الثروة والقدرة والعلم والفلسفة والتكنولوجيا.. الشيء الذي لو صرفنا النظر عن "وجوده" لهُزمنا أمام حفاة الدهر."1
يلفتنا كثيرًا عند الحديث عن غزّة والمشهد السياسي والإجتماعي هناك كم الأسئلة التي تطرح نفسها علينا بإلحاح. لحظة 7 أكتوبر، هذا الإنفجار العظيم الذي وضع غزة نصب أعيننا بعد أن كانت قد توارت مؤقتاً خلف الهدوء النسبي وكواليس السياسة. وقد شهدنا حتّى اليوم مختلف وجهات النظر والآراء، من يؤيد دون تحفظ، ومن يؤيد مع بعض الارتباك في الحديث، ومن ينوّه دائمًا بعدم انسجامه مع سياسات فصيل هنا أو حركة هناك، أو باختلافه معها في أمور كثيرة منها تأسيسية ونواتية جدًّا أو بالاختلاف السياسي والعقائدي عمومًا مع التيارات الإسلامية العديدة التي تنخرط في مشروع المقاومة ضد الاحتلال الصهيوني في العقود الثلاثة الأخيرة. والاختلاف في ميادين السياسة والاتجاهات الأيديولوجية والعمل في الشأن العام هو أمر طبيعيّ جدًّا.
ولكن هناك حاجة ملحّة للتمعّن في هذا الالتفاف المتين والصمود الأسطوري الذي نقف مذهولين أمامه: مجتمع قد تحرّر من أي اتكّال وتبعية لأي جهة خارجيّة في تلبية احتياجاته اليومية، احتياجاته الفكرية والعملية، مجتمع قادر على إسناد مقاومته بثقلها وحركتها ومفاجآتها، مجتمع خام بفلسفته النازعة إلى العاطفة والحياة والحقيقة. في المنقلب الآخر، هناك تخبّط ما في بنية مجتمعاتنا وسلوكياتها وخيارتها، تلك التي تقبع خارج الاستعمار المرئي ويتغلغل فيها استعمار مبطّن. من الممكن فهمها انطلاقًا من مقولة شريعتي حول "اقتتال العلم مع الفكر"، والبناء على نموذج التعاضد والتماسك الإجتماعي والنضج والوضوح الفكري وغلبة فكرة المقاومة، بكل أشكالها، عند غالبية الشعب الفلسطيني من أهل غزة، فرأينا كيف أن الفكر أسس للفعل في يوم 7 أكتوبر وما تلاه. "الفكر" الذي رأيناه يتجسّد في مشهد المقاوم الذي قفز فرحًا وهو يصرخ "ولّعت" احتفالًا بإصابته للهدف، "الفكر" الذي رأيناه حافيا فعلًا في مقطع فيديو2 يظهر مجموعة من المقاومين الحفاة يتربصون لخيمة جنود الاحتلال قبل اقتحامها، يربط شريعتي هذا "الفكر" و"الإيمان" و"العقيدة" بما يسمّيه "النباهة الإجتماعية" فيقول إنّ "أي جيل انصرف عن التفكير في "الدراية الإنسانية" كعقيدة واتّجاه فكري ومسير حياتي وتحرّك دائم، لا كانشغال يومي يزاوله كل أحد، وأي إنسان لا يفكّر في "الدراية الإجتماعية" بمفهوم "نحن"، وإنما يفكّر في شيء غير مصير المجتمع ومشاكله ومبهماته واحتياجاته، فإنّ هذا التفكير، حتّى لو كان في شيء مقدّس، فهو "استحمار3"!". ولستُ أوظّف الإقتباس هنا كي يساعدنا على فهم وتحليل الحالة الغزاوية الجماعية، بل لأنها (الحالة) تجسيدٌ فعليٌّ وواضحٌ لما أراد شريعتي التحدث عنه. فهي حالةٌ نقيّة من الدراية الإجتماعية والنباهة والتنبه لكل ما يكوّن الحياة من تفاصيل يغفل عنها الإنسان في مجتمعه المنفتح بلا حدود على العولمة والذوبان في العنصر الإنساني المُعولَم، فنراه يقفز عن الخصائص التي تميّزه وأبناء شعبه ظنًّا منه أنها ثانوية، في الوقت الذي تشكّل فيه هذه الميّزات نسيجه الإجتماعي الخاص والمتماسك.
وهذه الـ"نحن" التي يصرّ عليها شريعتي إنّما هي ملخّص كل ما شهدناه في غزّة من سلوك أهلها الإنساني في ظلّ الإبادة، والتي كانت حاضرة أيضاً في ممارساتهم وعفويتهم وحياتهم اليومية التي أسست لـ "طوفان الأقصى". أما "نحن"، فنقف مكتوفي الأيدي مندهشين حدّ الشّلل، لا نملك إلا الكلمة، نشكّك بجرأتنا على التوصيف والتفصيل، ونحاول أن نمتنع عن شرح ما تقوله لنا غزّة بصراحة فصيحة. لكنّها هي من يوعز إلينا بالتكلّم عنها، وبأن نحدّق في المشهد حتّى نتشرّب ما تلقننا إيّاه من دروس في الحياة العزيزة كي نستطيع أن نلحق بركب التحرّر. توعز إلينا أن ننظر بخشوع إلى ناسها، أطبّائها، صحافييها، أساتذتها… وأن نتعلّم هذه الـ"نحن" من أطفالها وأمهاتها… تلك الفردانية التي ما انفك العالم يحدّثنا عن ضرورتها لتطور المجتمعات وتقدّمها لا تفعل إلّا في حالة اختلاطها وانخراطها في المساحة الإجتماعية المحيطة بها وانسجامها مع محيطها: الفرد من أجل الكلّ، والكلّ من أجل الفرد.
ولكن كيف تحرّرت غزّة؟ فلنتذكّر أن هذا "المجال" الجغرافي ومن فيه فُصِلَ عن العالم، ووضعته الآلة الصهيونية تحت خطر دائم يهدّد بتفاقم الأمور نحو الأسوأ و"إعادتها إلى العصر الحجري"، كما يكرر الجنرالات الخائبون. وفي ظلّ هذا الواقع، لا يُترك مجالٌ للإنسان إلا أن يخلق أدواته الخاصة التي يستطيع التحكم بها وتطويعها لتخدم مصالحه وتسدّ احتياجاته، وهذا المنهج في التعامل مع الحياة يدخل في مختلف مجالاتها وأدق تفاصيلها، ويهيّئ "الأرض الخصبة التي تستولد المقاومة المسلّحة وتحتضنها وتضمن استمرارها وتحيطها بالضمانات"، كما يشرح غسّان كنفاني4 في مقدمة كتابه "الأدب الفلسطيني المقاوم تحت الإحتلال 1948-1968"، بحيث يستهلّ عرضه بما يسهّل علينا فهم البيئة الحاضنة للمقاومة في غزة وفهم الدور الذي يترتّب علينا لدعمها فيقول: "ليست المقاومة المسلّحة قشرة، إنما هي ثمرة لزرعة ضاربة جذورها عميقًا في الأرض، وإذا كان التحرير ينبع من فوهة البندقية، فإن البندقية ذاتها تنبع من إرادة التحرير، وإرادة التحرير ليست سوى النتاج الطبيعي والمنطقي والحتمي للمقاومة في معناها الواسع: المقاومة على صعيد الرفض، وعلى صعيد التمسك الصلب بالجذور والمواقف." وكلمة الرفض هنا بمعناها العنيد هي مفتاح الخيال لمن أنهكه البحث عن أجوبة لكل هذا السحر الذي نشهده في غزة. أن يرفض مجتمعٌ بأسره أن يُقرّر غيره نيابةً عنه كيف يعيش، وأن تُفرض عليه حياةٌ مشوّهة في عالم ليس له، فيأبى إلّا أن يحصل على الحياة التي يريدها وأن "يأخذ العالم بذراعيه وكفّيه وأصابعه5" ويأسره بسرديته الخاصة التي حاكها بالصبر والدم والتضحية.
هذا النموذج المكثف من الرفض الذي شهدنا زرعه في غزّة لم يكن في يوم من الأيام مقرونًا بالظروف القاسية التي فُرضت عليها، فهو ليس وليد الحصار والحرب، ولو أن هذين العاملين جعلاه مطهّرًا من أي أيديولوجية يمكن أن تلوّن لنا أساليب مزيفة للتحرر وسلّطا الضوء عليه، إنّما تشكّلَ هذا الرفض من مكوّنين أساسيين هما الإدراك والخيال. الإدراك النقي لما يفرضه عليك الاحتلال من وقائع حياتية صعبة تبدأ من أسخف تفاصيل يومك إلى أكثرها حميمية، وإدراك أشكال الحياة المزيّفة التي يصدقها البعض فيعمون أعينهم عن أساس مشكلاتهم وطرق حلّها ويتغاضون عن الحقيقة الصارخة من حولهم كنوع من الهرب أو من إعلان إفلاس مخيّلتهم. والخيال الذي يقفز بنا من واقع لآخر نبنيه كما نريده أن يكون، الخيال الذي يجبر العقل على خلق واقع يحاكيه بأبسط ما يتوفّر لديه من أدوات، فيطوّع المساحة من حوله لتخدمه كما يفعل الأسرى الذين يبتكرون في المساحة الضيقة خارطة طريق إلى خارج الأسوار لتأكيد حريّتهم، أو في المساحة الواسعة كسماء غزة التي حملت المقاومين فوق سياج الحصار ليعبروا من أرضهم إلى أرضهم، أو المساحة المكتظةً بالناس والدكاكين والمنازل كشوارع جنين التي لا يملّ مقاوموها تجربة كلّ شكل من أشكال إعلان سيادتهم على أرضهم ليلًا ونهارًا.
لم تبخل فلسطين ولم تقنّن في يوم من الأيام تقديم نماذج المقاومة والإيمان التام بالحرية، منها الشهيد باسل الأعرج، حالاتٍ ظنّ البعض أنها استثنائية في الوقت الذي كانت تترجم الفكر إلى فعل لتؤكّد لنا أنّ ما تقوم به هو سهلٌ وممكن إذا تسلّحنا بالفكر الصحيح والوعي الذي يحتّم علينا، الآن وفي المستقبل، تحمّل مسؤولياتنا تجاه مجتمعنا وتقديس الروح الجماعية التي تستمدّ الحياة من تكاتف أفرادها.
____________________
1 من كتاب "النباهة والإستحمار" للمفكّر علي شريعتي.
2 https://youtu.be/vPxSIeNsdVw?si=Hj5V3p83izlJfqP1
3 يقصد شريعتي بمصطلح الاستحمار استغفال الناس عن الجوهر المحرّك لحيواتهم وصرفهم عن إدارة المجتمع ككل بقضايا منفصلة لا تشكّل إلّا جزء يسير مما يجب الالتفات إليه وإيهامهم بأنّهم بذلك إنّما يصلحون من شأن أمّتهم.
4 الكاتب والمفكّر والمناضل الشهيد غسّان كنفاني
5 "إذا أردت أن تحصل على شيء ما، فخذه بذراعيك وكفّيك وأصابعك." -غسان كنفاني، عالمٌ ليس لنا
