خيطٌ يلتفُّ حول أجسادنا في رتبةٍ تقع ما دون الحرّية وما فوق الإختناق بقليل. قطعةُ قماشٍ غُزِلت من خلايا دماغ شخصٍ ما، كان يومًا على هذه الكرة الأرضية، قبل أن يعود عاريًا إلى جوف الأرض ويصبح مادة للباسٍ ما.
لنبدأ من أوّل خيوط الزمن "يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسًا يواري سوآتكم وريشًا ولباس التقوى ذلك خير ذلك من آيات الله لعلّهم يتذكّرون".1 إنّما كانت الفكرة وقتذاك إخفاءٌ لعُريٍ ما. وكلّما زاد العريُ في أرواحنا وكلّما تجرّدنا من عاطفة ما.. من شعور إنسانيّ ما. وكلّما تلبّستنا عيونُ الناس المشيرة إلى نقصنا وخطايانا وكلّما احتجنا إلى أنواعٍ وأشكالٍ من الألبسة لتغطية ما هو مكشوف من عيوبنا، يزداد إحساسنا بالضعف شيئا فشيئا ونحتاج أكثر فأكثر إلى لباسٍ يُؤخَذ من يراه بقوّته!
وإذا قمنا بمسحٍ شاملٍ للأزياء حول العالم، نجد أن لكل قبيلةٍ، منطقةٍ أو بلدٍ ما يميّزهم من ألوان أقمشتهم وطريقة حَيْكها، لكن الزيّ العسكري، لباس الحرب، إنما يتشابه فيما بين الثقافات المختلفة إلى حدٍّ كبير مهما تغيّر الزمن، فهو ينبثق من حاجة عامة جدًّا: الحماية والدفاع عن النفس. وبما أن العنف يولِّد العنف، والحرب تولّد الحرب، كان لا بدّ للتجهيزات العسكرية أن تولّد تجهيزات عسكرية أيضاً، تجهيزات منسوجة من مبادئ عظيمة وأهداف نبيلة، مفصّلة على قياس الأمة الكبرى والتاريخ الفضفاض، مصبوغة بألوان التراب والشجر والطين، وكأنها تذكّر من يرتديها بأنه "من التراب وإلى التراب يعود"2، وما بين بين عنفٌ واستعراض قوة.
إننا حين نختار ما نرتديه نقوم بتصريحٍ ما، نتبنى موقفًا أو نحاول وصف مكنوناتنا، نمشي بهدوء وسط صراخٍ دائمٍ لجوقة الأقمشة التي تحيط بنا وبمن حولنا. هذا أنا، هذا ما أحبّ وهذا ما أودّ التعبير عنه من دون أن أحرّك شفتَيّ. لكنّ بعض الملابس تخرج عن أدوارها المصنوعة لأجلها، فتلبسنا بدل أن نلبسها. تصبح هي هويتنا الوحيدة ومن دونها نشعر بالتيه، لا بل تتحوّل إلى هوية تجمع في طيّاتها فكرة الوطن. وتتركز في ألوانها مشاعر الفخر والحميّة والانتماء. يرتدي الجندي بذته فينصهر وجوده في تمجيدٍ مهيبٍ دائمٍ للدولة التي يحملها بين بوطٍ من الكاوتشوك وقبّعةٍ ما. يواري عفويته وضعفه تحت جعبة الانضباط والقوة. يتحوّل إلى آلةٍ مقاتلة تنفّذ ما يمليه عليها واجبها، وإذا ما حاول التشكيك فإنّ البذّة حاضرة على جسده وفي عقله لتنبيهه. تتخطى مجموعة الخيوط المتناسقة كونها شيء إلى كونها فكرة وشرف ومبادئ عظيمة الشأن فتنفذ إلى داخل الجسد بدل أن تبقى خارجه، تغطّي روحه بمشاعر الرضى عن نفسه لتأديته واجبه الإنساني وتملأ كيانه بمعانٍ ساميةٍ تجيبه عن أسئلة "من أنا؟ ماذا أريد؟ ما الذي يبرر ما أفعل؟…".
أضحى الجنديّ البطل رمز الإخلاص الشريف للوطن، يلبسه الأولاد في عيد الإستقلال وينسونه في الخزانة فور انتهاء حفلاتهم التنكرية ليعودوا إلى الفطرة واللعب بالطين بأيديهم. تنحصر الفكرة. يتوقف ذلك النوع من الشعور بالوطن على حفنة من الرجال وأسرهم، وننسى أن "ليس الجندي مدرسة حرب بل مدرسة تنوير للمواطنين، مدرسة سياسيّة. ليس الجندي في أمّةٍ راشدة جنديًّا مستأجرًا بل هو مواطنٌ يدافع عن الأمّة بالسلاح"3. تكبر الفجوة بين الجنديّ والمواطن، هو يلبس الجدّية المنضبطة الصائبة والآخر يلبس العفوية الطائشة المزركشة بالألوان.
تَوزّع دور الحارس القويّ مع كثرة الحروب الأهلية في المنطقة، انتزع المتمردون والثوار ومقاتلي الميليشيات حصرية اللون الزيتيّ من الأجهزة الرسمية، وأصبحت الألوان الترابية تعني الشيء ونقيضه، تعني الجيش والانضباط والدولة ظالمة أم مظلومة، وتعني التزامًا بثورة خالدة ضد الظلم في سبيل حياة عادلة متساوية بين الجميع. لم تفقد البذات العسكرية هيبتها، على العكس كانت تزيد من يرتديها رهبة في عيون من يرونه، فهو المقاتل الشجاع المغامر بحياته في سبيل أيديولوجية عنيدة، وهو بدوره يشعر بتضاعف حجم شخصيته وقوّتها عندما يرتدي لباسه العسكري. يشعر بالتزامه التام بقضيته ويُشعر من يرونه بأنه "منهم وفيهم ولهم"!
إنّ رئيس دولة مهددة بالأخطار، حروب أهلية أم عدوان خارجي، يجد عزاءه في أن ينزل إلى الميدان ببزة عسكرية فيشارك جنوده تفقد المعارك ويمدّهم بمعنويات عالية ويمدّ نفسه بمديح شعبه لبسالته وتواضعه لمُدة. إنّ اللون الزيتيّ - كما ترى عزيزي المتصفّح - هو دكانة سيوفٍ كلّ حدِّ سيفٍ فيها يختلف عن حدود أشباهه.
تتسّع مساحات المعارك والحروب حتّى لنجدها تدخل بيوتنا، إمّا في قضاياها وأحقّيتها، وإمّا على شكل ثيابٍ دارجةٍ كـ "الباغي" الزيتي والبوط الصحراوي الذي يضيف إلى صورة الشاب روشنة وقبضنة، يشعر من خلالها بأنه منخرط في قضايا المجتمع، شاعرٌ به، وعاملٌ على تحسينه. وذلك في حين أن واقعه يقول إنه منخرطٌ في نربيش أرجيلة، شاعرٌ في حريق حنجرته بسبب المعسّل السيئ، وعاطلٌ عن أي عمل.. ربما لأنّهم4 فعليّا لم يتركوا له ولغيره أي مجال لعمل أي شيء.
وفي نقلةٍ نوعيةٍ للشعور بالقوة من خلال الملابس، استبدل عالم الموضة اللون الزيتيّ، اللباس الدائم للثائر إرنستو تشي جيفارا، بصورته مطبوعة على T-shirt يلبسونه رجالًا ونساء ليوحّد مختلف الشرائح المجتمعية على فكرة الإنسان، ويكون تصريحًا صامتًا مشلولًا عن إيمانهم بحق الجميع في قوة مشتركة، عن إيمانهم بأنه يجب فعل شيء ما لإنقاذ ما تبقى من إنسانية على سطح الأرض. اكتسحت موضة التشي الأرجنتيني الأصل عوالم الأزياء لارتباطها الوثيق هي الأخيرة بالتعبير عن الهوية والمواقف. احتلّت صُور البطل صدورنا وظهورنا وطوّقت معاصمنا. ولم يتوانَ البعض عن إحلالها وشمًا دائمًا على نسيج جلده.
قد تكون هذه الصورة، صورة جيفارا، ظاهرة الـ "Che Chic" أكثر الصور تعبيرًا عن تداخل القيم والهوية والمنفعة المادية البحتة في عالم الموضة. تحوّل بطل محاربة الاستغلال إلى أداة أساسية في استغلال شركات الملابس لعاطفة الناس تجاهه، في جعلهم يقتنون أشياء تحوي ألوانه، ظِلّه، صورته في محاولة للتعبير عن أنفسهم دون التنبه إلى أن هذا التعبير يقف في معظم الأحيان على أجسادهم ولا يتخطّاها لأفعال ثورية، لحركةٍ ما.
يحاول الشاب أن يفصح عن قوّةٍ كامنةٍ داخله تؤمن بعالمٍ عادلٍ، فيلبس الباغي الزيتيّ، ويحاول أن يعبّر عن بساطته فيزيد عليه T-shirt أميركيّ أبيض سادة، يشبه فانيلا جدي التي كانت منسوجة من قطنٍ محليّ في مصنعٍ تديره أيادي نساء البلد. ويضيف بعض الأكسسورات ليميّز نفسه عمن حوله.. تضيع هويّته وتتبدّد الفكرة. تهترئ صورة الرمز الذي ثبّتته الموضة كـ trend بعد مرحلة عمرية معيّنة من الحياة الشابة. يبهتُ الحماس مع بهتان ألوان الثياب… نحتاج جديدًا يعبّر عن أصالة التمرّد في أرواحنا.
تمسك الموضة بأطرافنا في دورانها اللامتناهي، تخترق تفاصيل احتياجاتنا ومشاعرنا، ندور معها ثملين، بلا وعي، في انبهارٍ دائم، ننتقي ما يلامس نواتنا، ما يملأها، ما يصرخ عنا ما لا نريد قوله.
يرتدي كلٌّ منا مانيفستَهُ الخاص ونمضي مزهوين فوق كاتْووك الحياة بثقة عمياء، مخمورين بما نراه وبما لا نراه…
____________________
1 الآية 26، سورة الأعراف، القرآن الكريم
2 إنجيل متّى (16:6-21)
3 من كتاب معذّبو الأرض لـ فرانز فانون.
4 هم: لا أحد يعلم من هم ولكنهم يخربون على الشعوب حياتها بأدق تفاصيلها.
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة