كان اسمه سلام، وكان ذلك كافيًا ليشعر بانفصاله الجزئي عن محيطه حين بدأ يعي امتداد العالم من حوله.
درس التاريخ لاعتقاده بأن الحاضر وحده لن يجيب عن سؤاله ويحقق غايته الوحيدة: أن يفهم العالم الذي يحيط به. بعد تخرّجه لم تفتح له الدنيا سوى بابين، التعليم ووزارة السياحة. اختار العمل كدليل سياحي للقلعة الأثريّة من دون تردد، لم يرد أن يقيّده التعليم بمساحة معيّنة من المعلومات والقصص، ثمّ إنّ تبادل الحديث مع غرباء كلّ يوم بشأن التاريخ والعمارة القديمة والنظام السياسي الحاكم في زمنٍ غابر، كان سيكون وقوده الوحيد للاستمرار في محيطٍ لا يحضن ما يكفي من رفقاء الشغف.
خاب ظنّه وتأكد من بلاهة تصوّراته يومًا بعد يوم. وحدها دفاتر قليلة كانت تخفف عنه ثقل الوقت خلال الدوام في متحف القلعة بوسط المدينة. عَنون إحداها "رَوت لي قلعتي اليوم" وآخر "روت لي مدينتي اليوم" وآخر "روت لي شوارعي"... الشيء الوحيد الذي أثار ذهوله هو ملله من أشكال زوّار القلعة. لا تزعجه القلعة، بل كانت هي مصدر تسليته الوحيد. أغلب زوّار القلعة لا يستمعون لها كما يجب، لا ينظرون إليها بتأنٍ وافتتان كما يفعل هو كلّ يوم.
ومتى فرغت من السيّاح، خرج من المتحف ليتمشّى في أرجاء القلعة، تتكشف له مدينة طرابلس، أو مشهدًا عريضًا منها. ولكنّ المألوف لا يشبه نفسه أبدًا، دائمًا ما يرى تفاصيل جديدة في تلك البيوت التي تحمل بعضها على أكتاف بعض، في الغسيل المنشور من شرفاتها، في المآذن المزروعة بينها، في ذلك الحيّ الضيّق وتلك الشبابيك المهترئة…
لم يسلم من لسان أهله وأصدقائه: كيف لم تملّ الذهاب إلى العمل نفسه والمكان نفسه منذ سنين؟ ألا ترغب في عمل يدر عليك راحةً أكبر؟ حسناً نفهم حبّك للتاريخ وإلمامك بالمدينة وتفاصيلها ولكن ألا تريد أن تصنع شيئًا آخر من شغفك هذا؟ "يكفيني ما أرى" كان هذا تقريبًا ملخص ردوده عليهم.
لم يخفِ على نفسه استغرابه لها، لطالما أراد أن يكون عقله خفيفًا لا مباليًا، لكنّ إدمانه البحث عن الأجوبة كان يمدّه بمتعة فريدة، بلذة تمنحه حلاوة يستشعرها بعقله لا بلسانه. ظلّ يكتب كلّ ما يراه، كلّ ما يفكّر به. يدوّن ملاحظاته عن زوار اليوم من سوّاح ومن أفكار، يقول لنفسه إنه، يومًا ما، سيترك هذه الدفاتر لأنّه لا بدّ أن يجد من يحدّثُها بكلّ ما يطرق دماغه وبكلّ سلاسة وحريّة. ولن يُبقي له ذلك وقتًا للكتابة. وحتى ذلك الحين، كان يكتب ويشتري دفاتر جديدة ويملؤها، يصبغها بحبره وأفكاره.
بقيَت القلعة مكانه المثاليّ للإحساس بنبض الحياة في عروقه. كان يخاطب كلّ زائر للقلعة حسب تشخيصه السريع للطبقة التي تطغى على شخصه، فبرأيه أن الإنسان، أيّ إنسان، هو خليطٌ من شخصياتٍ عدّة مدفونة فيه، تتناوب على قيادة الجسد والعقل، وكان يأخذ على عاتقه مسؤولية دفع من يدخل قلعته لأن يسأل أكثر ويبحث أكثر، فيتروّى قبل البدء بالحديث معهم، ويحافظ على نفس الأسئلة التي يطرحها على الزوار في ختام حديثه "كيف تُزار مدينةٌ ما فعلًا؟ كيف تحمل من المدينة شيئًا لا يفارقك أبدًا؟ شيء يذوب في روحك إلى الأبد؟" يبادله المستمعون بابتسامة خجلة ويهزّون رؤوسهم على مهل، يبتسم بدوره وكأنّه أدّى واجبه اليوميّ.
غلب العمر صلابة ساقيه ومنعه التعب من المداومة على زيارة القلعة، فاضطر إلى اعتيادِ روتينٍ جديد. أصبحت مقاهي طرابلس ملجأه في غربته عن القلعة، إن لم يجد من يحدّثه بها، فتح دفاتر مدينته واستعاد مشاهد نسجها بخياله وأفكاره عن مكانٍ لا غريب فيه، عن مكانٍ يستحقّ أن يكون أكثر مما هو عليه.
كتب في آخر صفحة في دفتر "روت لي قلعتي اليوم" : لم أكن يومًا رجلًا يمشي في مدينته كالآخرين، كنت أشعر دائما وكأني أعبر الشوارع بقدمين خفيفتين ورأسٍ مثقلٍ بتفاصيل جديدة أكتشفها لحظة بلحظة، كنت أخترق بعينيّ عيون الوجوه المتعبة من حولي فأصل بها إلى مدًى أوسع، أحمله معي إلى أعلى نقطةٍ في القلعة وألقيه على محيطها، على طرابلس وساحلها الواسع. كنتُ أحمل غرابة هذه المدينة وأردّها إليها فأعود جزءًا منها عندما أكون في مكاني، في قلعة طرابلس، كان هذا سلاميَ الأوحد مع هذا العالم…".
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة